بازگشت

مع هارون الرشيد


و لكن العرش الذي تربع عليه هارون الرشيد، ليست قوائمه لا من ذهب و لا من أخشاب،... بل من عظام الذئاب التي يفتك بعضها ببعضها الآخر... و الأخير المنتصر علي المفتوك بهم، هو المتقوقع فوق العظام، يتربع عليها بتيه، و هو يتلمظها فقاقيع دم - بنصر مبتسم - كأنه آخر ذئب، و لن يولد من بعده أي من وحش يتمكن مثله من تلمظ العظام!!!

أنا لا أقول أن هارون الرشيد يتملك و مضة من فكر يتحلي بها إنسان، و هو يعتلي عرشا عائما بدم أخيه الهادي، بعد أن سفكته أمه الخيزران، و غسلت قوائمه بدم ابنها البهلوان، و قالت للثاني: هيا اعتل عرشا غسلته لك بالدم، فنم فيه مرتاح البال - و لا تندم، و لا تأثم، و لا تغتم!!!

و اعتلي هارون العرش - و هو يبتسم - كأن الدم المغسول به، هو البلسم المصبوغ بالعندم، و نسي أن العندم هو دم الأخوين الخارجين من ذات الرحم!!! أليس خزيا علينا، أن نغسل أيدينا بدم أخينا - و لو أنه يستحق السفك - و رأسا نبتسم، كأننا لا قتلنا، و لا جنينا، و ليس علينا أن نتحمل، لا وزرنا، و لا وزر غيرنا الذي نحن منه و هو منا!!! لقد قتلت أخي، لأنه



[ صفحه 140]



غادر مجرم - أقول في حدسي - فلأقتله... و بعد حزن و غم... أعود فأبتسم، إذا كان لابد من ابتسام!!!

بهذه المقدمة أحببت الدخول في دراسة تلميحية، تتناول هارون الرشيد متوصلا الي عرش لا يجوز أن يعتليه لسياسية جماهير الناس، إلا بالعدل، و الحق، و استقامات الوجدان... لا بالظلم، و الغدر، و رجاحة الطغيان!!!

لقد صدف ان العرش هذا، قد توصل إليه الرشيد في ظرف كئيب... لقد وعده به أبوه المهدي، بعد أن يتمرس به أخوه الهادي، و هو البكر؛ و إذا يخلو منه، يكون لابنه الثاني - هارون - أن يعتليه، بعد أن يكون قد اكتمل نضجه العقلي، و النفسي، و السياسي!!!

و لكن الهادي - لطمع فيه، خال من التروي، و بعد النظر، راح الي محاولة همجية، فكر فيها بحذف هارون من الساحة، ليبقي العرش من نصيب ابنه جعفر، من دون أي مزاحم!!! و انتبهت الخيزران - أم الأخوين - لفداحة الأمر... و لم تنتصر للهادي، و انتصرت لهارون... و لقد علمنا كيف انها أقدمت علي قتل ابنها الهادي بنقطة سم!!! و كيف أن هارون كان الباسم الأول مع صباح ذلك النهار، و هو يعتلي الكرسي الذي انحذف عنه الهاي... و لم تكن قد أجريت بعد مراسيم الدفن!!!

فلنترك للتاريخ تسلسل الأحداث المليئة بالعبر، و بكل تهرجات البشر! و لنعتبر العرش المتربع عليه الآن أخو الهادي إرثا موصولا بذيل السفاح، و ذيل المنصور، و ذيل المهدي... من دون أن يكون - منه - للهادي، فتيلة يستضي ء بها ابنه جعفر ابن رحيم... هنا مهزلة الهادي، في تمسكه بسلسلة الإرث... و هنا - بالمقابل - صوابية الخيزران في ضبطها حلقات المجد و وصلها بالقناة الملصقة بابنها هارون... أما الحق،



[ صفحه 141]



و العدل، و ضوابط التركيز... فتلك روافد أخري، و ليس من أحد في أرض الأمة، إلا مقتدر واحد يجمعها كلها في كفة الميزان، و يمتن بها العرش العظيم، و هو المتصف بالرشيد!!!

و ابتدأ الحكم بالرشد... و ما عتم ان صار رشيدا بياء «فعيل» التي هي كمال، و تجسيد عظمة... و العظمة فيه تثبيت العرش علي ماهيات مخصوصة به، و من أرهبها ادعاء الرشيد بأنه الولي المطلق علي الأمة، و ليست إلا له كلمة الفصل في كل الأمور المحتاجة الي تصرف خاص، يصون العرش، حتي من أية نية تجول في الصدر، لزعزعته، و الانتقاص من جبروته!!! هكذا حمي هذا العرش - ليبقي بمثل هذا الجبروت - جداه السفاح و المنصور... و هكذا حافظ عليه أبوه المهدي... و هكذا، فإنه هو الرشيد المستعد الآن علي أن يحميه من كل ظنة - مهما تكن ضئيلة - فيحذف عنق من يتلبس بها، من دون أية محاكمة قضائية، قد تبرئه منها هفوات القضاء... مع العلم ان القضاء بالذات - و هو من البوابات الحضارية - لم تعتمده مفتوحا علي شؤونها تلك العروش الهارونية النيرونية... بل تبجحت بإنشاء مجالسه، تمويها علي البسطاء و السذج، و هي تقول لهم: بأن الخروج علي الحق، لا ينظر فيه إلا القضاء الذي هو قمين بإرجاع الصواب الي نصابه!!!

تلك ستارات تواري خلفها دهاقين العروش! و من أفتكهم هذا الهارون الآتي الي الحكم بقميص أخيه الهادي!!! انه المتلطي بمجالس القضاء، حفاظا علي الأمة، و علي روحية الإسلام... و لا قضاء بين يديه - هو الرشيد - إلا و هو - الرشيد - سيفه، و رمحه، و نقطة السم في رطبه!!! أما الاسلام، فإنه المدعيه دينا له و للأمة التي هي - بأكملها - حقيقة الاسلام.



[ صفحه 142]



كأن البحث، لا سار و لا دار، إلا ليوصلنا الي نقطة الدائرة... و الإسلام - بالذات - هو نقطة الدائرة: إسلام الأمة التي هي أمة الإسلام، و إسلام هارون الرشيد، يتربع علي عرش هو لأمة الاسلام، تشده اليه خلافة تربطه ربطا متينا بنبي الإسلام، و يا للنعمة المستديرة، فهو الولي العظيم الجامع امة الاسلام في دوحة الإسلام.

هنالك إسلام ثان، تراءي للرشيد - في رداءة ظنة - و هو إسلام الإمام موسي بن جعفر - و هو إسلام إمامي، يجابه - منذ أن ابتدا - إسلاما «يخلفيا» من دون أن يقر له - لا بحقيقة الإسلام، و لا بتعديل النهج - ألا بئسه من إسلام متزمت، ما أراده النبي للأمة أداة يابسة، لا ينهض بها الي أي تجدد، و أي تقدم، و أي منهاج!!!

أظنها هي ذاتها مقولة الرشيد من بني العباس، و هي التي كانت تدور في خلد ذاته، كما و انها هي ذاتها التي دارت في خلد من سبقه من بني أمية... و لا فرق بين الخطين: الخط الماضي الذي تقوض، و الخط الحالي الذي يكتسح الآن ساحة الإسلام، و لم يتقوض بعد... و حتي يستمر هذا الخط، من دون أن يناله أحد بالتقوض بعد... و حتي يستمر هذا الخط، من دون أن يناله بالتقوض، كان الرشيد يحاور نفسه في كيفية محو الامام موسي من الساحة العامة التي لا يجوز - مطلقا - أن يبقي فيها إلا ظل واحد، هو ظل العرش الذي تخضع له - بالتمام - أمة الإسلام!!!

تلك هي الفكرة الوحيدة التي استحوذت علي جميع مجالات اقتناع الرشيد: بأن حذف الإمام موسي به الساحة، هو مطلب، و لا فرق بين أن يكون إسلاميا، أو عرشيا - أو عباسيا - هارونيا... فالمآل واحد، و هو صيانة العرش، و صيانة الأمة من الزكزكات الإعتراضية التي يقوم لها بنوطالب - بين الحين و الحين - كمعالجات ثورية، محوا للإسلام، و إنهاضا



[ صفحه 143]



لإسلام آخر، هو - كما يدعون - إسلام النبي، و هو الطالبي - في ظنهم - بدون منازع!!!

و كيف يكون حذف الأمام؟ و انتصب السؤال في وجه الرشيد... و لكنه تبسم في دخيلة ذاته و هو يقول:

- كيف يكون الحذف؟... و لكن الطرق عديدة... فاستخدم منها أيا تريد... أتريد أن تحاكم؟... فالقضاء لنا في كل مجالسه الفسيحة!!! أتريد أن تسجنه، و تذيبه في الموت البطي ء؟ ان السجون كلها بين أيدينا... فلينم فيها قرير العين!!! أتريد أن تقدم له كوبا من عصير الورد؟... فنقطة السم راقدة في الكوب، قل أن تسكب فيه عصير المتعة...

قبل أن ينتقي الرشيد قميصا واحدا من القمصان التي سيجلبب بها صدر الإمام... كان الإمام ساجدا يصلي، و هو يستعرض أمام عينيه المغمضتين، كل ما مر به من أحداث، تمكن من اجتيازها بنوع من سلامة - أكان مع المنصور، أم مع المهدي، أم مع الهادي الذي تفل أنفاسه في حضن أمه الخيزران التي قالت، و هو ينام:

- نام ابني الهادي نام...

و مع الصبح يصحو من أحلام...

تكر فيه بسمات المنام!!!

و غرق الامام مليا، و هو يستحضر في باله أما تغنج إبنا لها بنقطة سم، و ابنا آخر - هارونيا - بقوائم عرش... و انتصب أمام تصور الإمام عرش بقوائمه السوداء، و فوق ضلوعه رجل أفعي! يا للأفعوان، يبخ العنفوان كأنه



[ صفحه 144]



الدرياق... و ليس غير الدرياق في عنق الأفعوان!!!

و مد الإمام يديه الي العنق الفحاح، و استنزله من علياء كرسيه، و كممه بقبضة من تراب و هو يقول له:

- ليس لي إلا مثل هذه الهنيهات الفريدة من نوعها، أصارحك فيها بصمتي الصارم، و هو المخنوق في حفيظتي منذ أن وقعت عيني عليك، و اكتشفت فيك عنصرا من أرادأ العناصر، ندر أن تخبأ بمثله - صدر من صدور البشر... فاسمعني - بلساني المفتوح - أبوح بكل ما علق في ذهني منك... و انها كلها - أنت - و ان كنت تظنها تخفي، فهي التي تتصف بك في العراء... فخذها مني بندا بندا، والله ولي العارفين الصادقين...

أولا - أنت لست مسلما كما تدعي - فالاسلام كله وحدة فكر، و وحدة روح، و وحدة إيمان بالله، و بالنبي، و بالأمة التي هي أمة الاسلام، أما إسلامك أنت، و أنت مرغم ذاتك بأن تدعيه، فهو تفتيش عن نفوذ سياسي، يعليك الي عرش تموهه - أنت - بالإسلام، و الإسلام الصحيح لا يرضي بعرش يسجد بمقعد من طين و حجر، تتوزع منه العبادة لإله يوصي بالحق، و العدل و المساواة بين المؤمنين،... و يوصي بالخلق الكريم الذي هو: حب، و صدق. و عفاف بين جميع المسلمين...

ثانيا - لم ينتدبك النبي العزيز خليفة له... و انتدب عليه إماما - بعده - يتقشف برعاية المسلمين... و الإمامة - بدورها - هي الخلافة، و لقد عينها النبي الكريم - بذاته -



[ صفحه 145]



و بلسانه... فلماذا لم تصدقه، و رحت تصدق ذاتك، بخلافة عينتها أنت بذاتك... لا لتخلف نبي المسلمين... بل لتشق وحدة المؤمنين... و انشقاق الوحدة الي اثنتين، معناه - في نظرك - استنبات عرشين... و حذف عرش الإمامة، هو تمتين لوحدة عرش الخلافة... أليست - هكذا - تتركز سياسة عرشك العباسي؟!! كما تركزت سياسة العرش الأموي، و قد دال العرش الأموي، كما سيدول - بعد حين آخر، عرشك العباسي!!!

ثالثا - نحن - بني طالب - أعرضها الآن بالتخصيص أمام محجريك: قد و اليناكم بابني العباس، لتقويض عرش أموي راح يستبد بمقعد طالبي، حسبه بنوسفيان قبليا طالبيا، بينما هو: نبوي إسلامي... و لقد كان تحسب بني أمية - قبليا بالذات - لاقتناص النفوذ السياسي لهم بالذات، لا لأية قبيلة سواهم، و بالأخص لو كانت طالبية!!!

أجل، يا بني العباس... لقد ساعدناكم لتقويض العرش الكذاب، لا لأنه أموي - فالإسلام لكل قبائل الأمة علي الإطلاق - بل لأنه ابتدع من الاسلام إسلاما آخر ليس له من واقع الإسلام غير شق الأمة، من دون أن تعي الأمة أن ذلك ينبذها الي نصفين، و يهزلها الي ضعفين!!! أما الفاعل المجرم، فانه كان القابل الراضي بإهزال الأمة، و جعلها أمة مذللة و مستكينة بين يديه!

و تم لكم انتصار يا بني العباس!!! و بدلا من أن تبنوا علي



[ صفحه 146]



الأنقاض مقعدا جديدا من طين و حجر... و تتناولوا الأمة بحكم فيه من الاسلام ما يعزز الأمة، و يوسع لها البصيرة و البصر... رحتم الي عرش تسبكونه سبكا بكل أشكال الدرر! و رحتم تعتلونه ناطقا بالفسق، و الظلم، و الطغيان... و لا صلة لكل ذلك بإسلام يستنزل الله رحمة علي العباد!!!

و لقد اعترضنا عليكم يا هارون - لا لأن نسلبكم عرشا، ساعدناكم نحن، - علي غفلة منا - في جلوة خده... بل من أجل أن تغيروا من برزة حده، و تجعلوه لائقا بحرمة الاسلام، و تزينوه بالعدل، و الحق، و ترجيح الوئام!!! و لكنكم ما سورتموه إلا بالظلم، و التعدي، و خفر الذمام... و قاومناكم - لا بسلب - بل بإيجاب... و ها أني أفسر لك - يا هارون - إرادة السلب، و رأي الإيجاب... فافهم:

ان المقاومة السلبية لا ترشقك بها الا الامة بوعيها التام، و هذا الوعي - بالذات - يناديك الي ضبط مواعينها، ان تكن عادلا و حكيما... و الا فانها تنحيك إذ تخفر - أنت - الذمام، لتستدعي سواك حاملا اليها تسديد الذمام!!!

و لكنك تعلم - أنت يا هارون، كما كان يعلم - قبلك - جدك المنصور - ان الوعي الكامل الفاعل، لم تتمتع - بعد - به الأمة، و هكذا فإنه لم يصلك منه، إلا بعض من رذاذ... أما الرذاذ فهو الذي رشقناك - نحن - الآن به، و ها أنت الآن الراجف منه... فهو الحاصل الفريد الذي



[ صفحه 147]



أنتجته الإمامة المثلثة بالإمام زين العابدين، و الإمام ابنه الباقر، و حفيده الإمام الصادق... و هي الإمامة المقتنعة بأن الجهل هو سبب انهيار الأمة في تلهيها بكل أنواع المماحكات، و الترهات،... و ان العلم الوسيع - وحده - هو الممتعها بكل وعي يوضح لها أهدافها و مراميها!

و تم إنشاء الجامعة العلمية - و علي مدي سبعين من زواهي السنين، ضاءت في أجواء الأمة أضواء تبشر بانبثاق الوعي الآتي لمحو العي، و استئصال شأفته من أعماق الجذور!!! ألم تشعر - في قرارة ذاتك - يا صاحب الفخامة، بأن قوائم عرشك، بدأت تهتز ارتجافا، لأن الوعي النامي في أحضان الجامعة، بدأت تضي ء مشاعليه؟!!

و علم جدك المنصور - بذكائه الفطري، و دهائه المستمر - ان الوعي المطل من نوافذ الجامعة، سيعتم عليه ممرات العبور!!! فحقن وريد أبي الصادق بنقطة سم، حذفت الصادق من ممرات العبور!!!

و أنت أيها الرشيد الآخذ عن جدك إرث العبور؟ ماذا عساك تفعل، غير أن تدفن الإبن في تربة أبيه! فتصمت الجامعة، و يهدأ الجو من ضجيج الملحدين!!! و تنام المقاومة السلبية تحت قوائم عرش، و هو يرفسها رفسا حتي لا تستفيق!!!

أما المقاومة الإيجابية، فهي المتمكنة في أصالة روحنا، نقوم بها كما نقوم الي أودنا المعيشي و الروحي، لنبقي الأمة في علاقاتها الاجتماعية، مستمرة الي أن يتجدد لها



[ صفحه 148]



عزم ثان، ينهض بها الي وعي يوصلها الي أفق... أما بنود المقاومة هذه، فهي ليست أكثر من مهاميز آنية، نوجهها الي الحاكم الذي لم نتمكن - بعد - من إزاحته الي خلف الستار... لعله يشعر بصدق الزجر، فيعدل - هو - من رداءة حكمه!!! هل سيحصل ذلك؟!! و لكن المحاولة لا تقصد غير الحصول الذي تنتظره الأمة - في سجيتها المنتظرة - أما عدم الاستجابة، فمعناها: تجرير الأمة في استكانتها الحزينة، و تمريغ المحاول بوحول أخري، لابد له من أن يتحملها، و أوحلها السجون المعتمة!!! و أرذلها نقطة سم، فيها من الذل و الغدر، أكثر مما فيها من الموت الذي هو قضاء الله العزيز الحكيم، في ترتيب الخاتمة!!!

رابعا - أتظن يا هارون أننا لا نعيك بكامل ما أنت فيه، من قمة رأسك حتي أخمصيك؟!! كما و أننا نعرف - أيضا - أنك تستوعبنا بذات الاتساع، و ذات الاحتواء!!! و لكن الفارق الوحيد ما بيننا هو في أننا مؤمنون بالله العزيز الحكيم، و هو منا و نحن منه، في حتمية الوجود!!! أما أنت، فإنك تدعي الإيمان به، من دون أن تنضوي فيه انضواء الجوهر بالجوهر! من هنا يكون علينا - إزاءك - واجب التوضيح عن إله عظيم: كيف نعيش فيه و يعيش فينا، و نحن نستلهمه في جميع شؤوننا الحياتية - الروحية و الفكرية علي السواء - بينما يفوتك - أنت - هذا الاندماج الرحرح، و يعزلك الي الزوايا المعتمة التي تبني فيها قصورا لك، لا يحميها الحق، و العدل - بل الفسق و الاستبداد!!!



[ صفحه 149]



ان الله الذي لم تكتشفه - أنت - بعد، هو الوجود المطلق، و هو الأوسع من أن تراه العين، و الأقصي مما تتمكن - أنت - من الوصول اليه - حتي - بالخيال!!! انه الأبعد و الأعمق من أي حد، و أي وصف، و أي رقم، و أي تصور... و هو كل الحق، و كل العدل، و كل الصدق، و كل حقيقة التنظيم، و كل «القبل»، و كل «البعد»، و كل حقائق الجوهر.

هذا هو الله - فإذا قلنا لك يا هارون: إننا فيه و هو فينا، و هو منا، و نحن منه... أترانا نكذب عليك؟!! و إلي أين تريد أن ترجعنا؟ أليست اليه حقيقة الرجوع؟ أما إذا خرجنا عن دائرة الحق!!! فعندئذ - فقط - نكون قد ابتعدنا عن حقيقة الدائرة التي نحن فيها في حتمية اللزوم!!!

- و اعلم يا هارون: ان الله - عزوجل - في مصداقية ذاته، و براءة وصفه، هو الذكاء المطلق... فإذا أفهمناك أننا نستلهمه - و هو فينا في حقيقة الإلتصاق - فإن استلهامنا إياه، لا يعود علينا إلا بوسع المعرفة المنبثقة من روعة اليقين، و من ذاتية المصدر.

- و استلهمنا الله - بإيماننا و ذكائنا المتسعين به - و جاءت معرفتنا بك، و بكل ما يجول في طويتك المنحرفة عن جادتها المفترضة ان تكون سليمة. و هي ليست سليمة:

- أنت تكذب علينا، و علي ذاتك في نفس الوقت...

- أنت تؤمن بنا صادقين معك، و مع الأمة، و مع



[ صفحه 150]



الإسلام... و لكنك لا تريد أن تصدق ذاتك... لأنه يفوتك الإيمان الصحيح، و هو الركيزة الصادقة: في الحكم - و ابداء الرأي - و تقديم النهج السليمة!!!

- لقد قلنا لك: أنا، و أبي، و جداي العظيمان، الباقر و زين العابدين... بأننا نتخلي لكم، عن كل سياسات الحكم... أي: فلتكن لكم يا بني العباس، كل السياسة، و اتركوا لنا الجامعة - محوا للجهل من عب الأمة، و نشرا للعلم الذي يستنير به وعي الأمة... و صدقتمونا، و أنتم تنوون أن تحذفونا... لأننا - فقط - صادقون: مع الاسلام، و مع الأمة... و أنتم لا تريدون توعية الأمة... لأن وعي الأمة لا يسهل لكم وصولا الي مجد و ثراء لا تجنونهما إلا من استعباد الأمة!!!

لقد حذفتمونا - فعلا - من حقلنا الإيجابي الصادق، صيانة لحقلكم السلبي الكذاب!!! و أي واحد من أبي و أجدادي لم ترشقوه بنقطة سم!!!

و أنت، يا هارون المجد؟ أي شي ء في مكنون ذاتك؟!! أتظنني لم أكتشفه بعد؟... لقد استلهمنا الله فيك... و لقد احترنا في أمرك، و ما بقي لي إلا أن أقول: إني عرفت - انك أنت بالذات - تعرف أني مكتشف كل طواياك... و من أمرها - إطلاقا - انك لن ترعوي عن تنفيذ الأذية في جسدي الترابي... من دون أن تتمكن من أن تنال من وجدي الروحي الذي هو من امتزاجي الأفقي بالله - جل جلاله!!! سأتحمل كل كيظ ترشقني به، بصبر عزيز



[ صفحه 151]



و طويل، لا تفيد أنت منه... بل تفيد منه الأمة، فتحفظ منه اصطبارا علي الأذي، يكون سبيلا لها لبلوغ الحق الذي ترجوه عن طريق احتقار الحاكم الظالم، و عدم الانصياع له يجمع ثراءه، و فحشه، و أمجاده... من استعباد الناس، و إذلالهم بتمويه كاذب، و سلطان ليس له غير أنياب الذئاب!!!

اسمعني يا هارون... حتي أعين لك، ما أنت - بالذات - تريد أن تصنعه بي؛ و كن أكيدا من أني سأتقبله منك، بصبر المؤمن الذي لا يحيد عن طاعة ربه - ليس إكراما أو رضوخا لك، بل تثبيتا للأمة بأني أتحمله من أجل أن تأخذ - هي - منه العبرة في رفضها الأبي كل ما يعرقل مسيرتها نحو المجد.

- سيكون لي - و أنت منذ وقت طويل مصمم علي حذفي من تحت عينيك - أن أنقل عنك - أنت بالذات - كيفية درسك الطرق التي يمكنك أن تحذفني بها من أمامك... ان السبل هذه، لم تتمثل في ذهنك الذكي، بأكثر من ثلاثة:

أسرعها: نقطة سم في كوب، و انتهي الأمر!

أشرعها: إنشاء مجلس من مجالس القضاء!

أطولها: فتح بوابات السجون المعتمة، أو فلنقل: المؤبدة!!!

لقد درست يا هارون السبل الثلاثة درسا مطولا، و كنت حائرا في أي واحد منها يصح لك الاعتماد!!! أما حيرتك



[ صفحه 152]



هذه، فكانت تؤكد عليك، بأنك خفت من التاريخ أن يأخذك - بقتلي - الي تهمة التجني علي الأولياء الصادقين!!! يا للمهزلة يا هارون!!! لقد كنت - فعلا - تعتبرني وليا من الأولياء الصادقين!!! و بذات الوقت، كنت تريد أن تحذفني من صفحاتك، لأني من الأولياء الصادقين!!!

و لنتابع يا هارون: لقد رفضت استعمال نقطة السم، و أنت تتذكر أن جدك العظيم المنصور، قد استعملها في كوب أبي الإمام الصادق!!! و سيتهمه التاريخ - من دون شك - بالتجني، لا علي ولي من الأولياء الصادقين... بل علي عبقري - أيضا - من العباقرة النادرين في تكوين الأمة التي أتحفها بالعلم الصادق ولي الصادقين!!! لن يفتح عليه مثل هذه الثغرة سيد العرش هارون الرشيد!!! و هكذا سيوفر هارون نقطة السم لحذف مجرم آخر، يخبي ء في عبه قنبلة تزعزع عرش هارون!!!

و انتقلت يا هارون الي دراسة السبيل الثاني، بإنشاء مجلس قضائي تحاكمني فيه، و تقضي علي بالموت المؤكد!!! و لكن المجلس القضائي هو بحاجة أولي الي انتقاء قضاة يقتنعون بتجريم الإمام، مما يستحق الاعدام!!! سيكون لك يا هارون أن تنشي ء مجلسا ينفذ هذه الغاية... و لكن شهرة الإمام بالاستقامة، سيتناولها التاريخ، ليدعم بها شكه الكبير بمجلس قضائي ينشئه الرشيد ليكون فاصلا بالعدل و الحق... و إذا به قضاء كذاب، لا يتعمق، لا



[ صفحه 153]



بالدرس، و لا بالعدل، و يتهم بريئا كالإمام، و يحكمه بالاعدام!!! لقد توقفت طويلا يا هارون - و أنت تدرس كيفية إنشاء مجلس قضائي... و لكنك لم تقدم علي إنشائه، حتي لا تقع في مثل هذا الريب!!!

لم يبق لك غير الالتجاء الي سبيل ثالث - درسته بإمعان، فوجدته في حقيقة التلبية... و ها أني أعرض عليك - لأبرهن لك أني ذكي مثلك، أتمكن من اكتشاف مخططات الأذكياء!!!

لقد قلت يا هارون في ذاتك: لماذا ألجأ الي السم، لتنفيذ مآربي؟ أو - بالتالي - لماذا ألجأ إلي مجلس قضاء، لن أحصل منه إلا ما تفرضه عليه إرادتي؟!! أليس عندي - و من ضمن صلاحياتي المطلقة - ما يوصلني الي مرامي، من دون استخدام نقطة سم!!! أو استجداء مجلس قضائي... و الاثنان - ربما - قد يشوهان سمعتي!!! أجل يا هارون... أليست مفاتيح كل السجون في قبضة كفك؟ يفتحها لك - الاحتياط - ساعة تريد، فتزج فيها كل من تشك به ساعيا الي زعزعة العرش؟!!

أجل - انه الاحتياط!!! و الاحتياط الكبير... يجعلني أتلقط بتلابيبك يا موسي! و أفتح بوابة السجن الذي أريد، و أزجك فيه، من دون أي محاسب، أو متسائل، أو أي رقيب!!! هكذا تقضي مصلحة العرش: أن ألنك بالصمت، و بالعتمة، و بالخفاء المطبق... لا لشي ء سوي ابعادك عن الساحة تجمع فيها عيدان حطبك،



[ صفحه 154]



لتشعلها، و تحرق بها قوائم العرش!!!

و ارتحت كثيرا يا هارون، لانتصار الفكرة فيك، و هي التي ستنجيك من قولة التاريخ الذي سيتلهي - فقط - بأنسوجة التهمة: هل تستحق عتمة السجون؟ أم لا تستحقها؟ و هل هي تهمة؟ أو أنها ابتداع تهمة؟!! و هكذا يبقي التاريخ متلهيا بالبحث الطويل... و الي أن ينتهي السجن الطويل، أكون أنا - يا هارون - قد لفظت أنفاسي!!! و انتهي الأمر!!!

انه ذكاؤك يا هارون... و انه ذكائي - أيضا - عددت به درجات ذكائك الذي يربعك علي قوائم العرش! فنم هنيئا فوق مدارجه، الي أن تستفيق الأمة فتجدك مهرجا زيف لها حقيقة المجد!!!

أظن الامام قد تناوله نوع من راحة، و هو يحلل نفسية هارون الرشيد. و لكنها راحة مقتنعة بأن الغد القريب آت إليه بكرب لابد من تحمله بصبر عجيب... و لقد تفسر اقتناعه، و ها هو يفتح بوابة داره ليجد أمامه رسول الرشيد - مع الصباح الباكر - يستدعيه لمقابلة الملك، و هو بحاجة اليه ليستفسره عن بعض المبهمات... و لبي الإمام العرش، و هو يوجس خيفة من هذه المهمات!

و طرح الرشيد علي الإمام سؤالا كأن فيه كل التحرشات:

- ما رأيك يا حضرة الإمام بشذرات لا نزال نسمعها في الساحات: بأن الامام موسي غير مرتاح الي حكم يدعي أنه حق، و عدل و صواب، و هو الخالي من الحق،



[ صفحه 155]



و العدل، و الصواب!!! هل هنالك من «فخ» جديدة يحضرها الكتمان، و قد شملها الغفران و النسيان؟!!

أخذ الإمام السؤال و غرق فيه من دون أن ينبس بأي جواب... و لكن الملك هزه من جديد:

- أنا لا أعرف الامام إلا صادقا في كل ما يقول... و لطالما رشقتني بمثل هذه التمنيات، و ما كنت آخذها منك إلا بريئة... فهل هي - حتي اليوم - لا تزال بريئة؟!!

و التفت إليه الإمام و أجاب:

- كنت دائما تأخذها مني بريئة، ثم تردها إلي غير بريئة... لنا الله فيك يا هارون! لماذا لا تأخذها غير بريئة ثم تردها الينا و هوي مسكوة بالبراءة؟!! غير انك تعلم أني ما طرحت تمنياتي في الأمس: - عليك - بل في أذنك - وحدها - كنت أطرحها، حتي تكون أنت محقا، و عادلا، و مصيبا، إعلاء لشأنك، و صونا لمصلحة الأمة التي لا يبنيك، و لا يبنيها، إلا الحق، و العدل، و الصواب!!! فاتهمني بما شئت... فإني لم أعد أبالي إلا بمن أومن به: حقا، و عدلا، و صوابا...

لم يكد يصمت الامام، حتي نهض الملك، و تناول الامام و صافحه بيده و قبله بشفتيه و هو يقول:

لابد لي من أن أصدقك... فاذهب الآن بأمان، و سنلتقي بعد حين!

و قال للحارس الذي ما زال بين يديه، و أظنه حسان السروي:



[ صفحه 156]



- اذهب بالامام،... أوصله الي البسرية... لقد اشتراها الامام بثلاثين ألف دينار، فهي له... أوصله اليها!!!

و قال الحارس:

- ان قافلة الرجوع مجهزة يا سيد العرش... و أنت يا سيدي الامام... تفضل معي... أنا بين يديك!!!

و مشي الحارس، و تبعه الإمام، و مشت القافلة المنظمة للحراسة المعدودة... و عند المساء وجد الامام نفسه في البصرة، حيث تسلمه عيسي بن أبي جعفر، و زجه في بيت من بيوت «المحبس» - و لم يسمح له بالخروج إلا للطهور... غير ان الحارس حسان بلغ قائد المحبس أوامر الرشيد بألا يمطط كثيرا ليالي السجن علي الإمام... و إذا تمكن - مع الصباح - من خطف أنفاسه، خير له من أن يبقيه حتي المساء!!! و لكن عيسي بن جعفر، رفض الانصياع لمثل هذه الأوامر الجهنمية التي تثقل ضميره الانساني... و بعد أيام قليلة تم نقل الإمام من البصرة الي بغداد حيث تسلمه الفضل بن الربيع... و لم يقبل أن يسجنه إلا في داخل بيته، لأنه كان يكن له احتراما مخصوصا... هنا كان للإمام موسي أن يتنفس الصعداء، و يسري عن نفسه أمام الربيع، بكل ما كانت تعتلج به نفسه من هارون الرشيد - قال - و الربيع مصغ إليه بصمت بليغ:

- أشكرك يا عزيزي الفضل، لا تسجنني - فقط - في بيتك، بل في جنة من جنان الله... فيها العطف و الكوثر... و لكن جنتك يا أنسي الكريم، لن تدوم لي أكثر من بضع ساعات... فلأتذوقها ما زلت الآن معك.

ماذا أقول أمامك في الرشيد؟... انه لا يريد أن يسجنني،



[ صفحه 157]



بل أن يمحوني من أمام ظنونه، و تبكيت ضميره!!! لماذا؟؟؟ لأنني أنصحه بإشاعة الحق، و العدل، و المعروف، فيطول عمره و عمر الأمة، بالخير الصحيح!!!

و يتهمني: بأنني أمد يدي لأسحبه عن عرش فاجلس فيه... في حين أرجوه أن يسدد بالحق عرشه، فيبقي له هذا العرش، و أن يدعني أطيل عمر الجامعة التي تنيره و تنير الأمة علي السواء... و لقد اشتري الأخصام يشهدون علي بتجميع الثروات أنفقها في سبيل الوصول الي خلافة تحطم العرش علي رأسه!!! و ها هو الخائن المرذول - علي بن إسماعيل بن جعفر الصادق، و هو نسيبي، يشهد بين يديه علي!!! بماذا يشهد؟ بأني اشتريت ضيعة البسرية بثلاثين ألف دينار... و سأحطم العرش بها علي رأس الخليفة الملفوف بالشنار!!!

و ضيعة البسرية!!! نحلتني بها الأمة، لتعزيز مركزي الإمامي، أرعي به شؤون الأمة... يا للقصور، و الدور، و الحدائق!!! كيف سيتبجح بها الامام موسي، من أموال الأمة، ليجعلها متعة له، لا يدور فيها: إلا القصف، و الرقص، و كل أنواع المتع الدنيا!!! بينما يكون هارون الرشيد قابعا في الزوايا المعتمة، لا يجتر غير الفقر و الحرمان!!

لم يصل الامام موسي الي مثل هذا الحد من البوح، و التذمر، و الانفعال، حتي كانت كوكبة من فرسان هارون الرشيد، تطوق بيت



[ صفحه 158]



الفضل بن الربيع، و تطوق يدي الامام بالسلاسل، لتنقله الي بغداد حيث سيرمي في سجن يتحكم بأبوابه الفضل بن يحيي... و هذا - بدوره - تلقي أوامر الرشيد، و هي ذاتها التي كانت موجهة الي الفضل بن الربيع!!!

و لكن الفضل بن يحيي - بدوره - ما امتثل إلا كما امتثل الفضل بن الربيع... مما أحوج الرشيد، و بسرعة قصوي، الي نقل السجين الي عهدة السندي بن شاهك.

و السندي هذا - و هو الآن شيخ مسن - و هو أبوالمنصور، جد هارون الرشيد، و ان الجسرين من نهر دجلة في بغداد هما ضمن ولايته، و هو الذي سيتولي حراسة دور البرامكة الذين سيغدر بهم - في الغد القريب - هارون الرشيد، و يحذفهم من الوجود!!!

ان هذا السندي بن شاهك، سيكون الوغد الأثيم المنفذ أوامر هارون الرشيد، متسلما من يديه رطبا مسمومة، ما كاد يطعمها الإمام موسي حتي مات مسموما، عن عمر يناهز الخمسة و الخمسين... بعد أن أمضي في السجون ما يقارب السبعة عشر عاما... لم يقدم - فيها - للرشيد طلب استرحام، و اكتفي بأن يوجه إليه هذه الرسالة في سطرين:

- لن ينقضي عني يوم من البلاء.

حتي ينقضي عنك يوم من الرخاء!

أما عرض جثمانه فكان طيلة ثلاثة أيام علي جسر الرصافة في بغداد و لم يقم بغسله و تجهيزه إلا سليمان بن أبي جعفر.



[ صفحه 159]