بازگشت

بعد الغياب


لقد مشت الجنازة الكبيرة بجثمان الامام الكبير، من جسر الرصافة الي مقابر قريش، و كل السائرين في الركب الحزين دامعون - و علي رأسهم سيد العرش هارون الرشيد - لقد كان ماشيا مطرقا، و هو يلملم - بمنديله الأخضر - دمعات حمراء، ما ارتضي إلا أن يبذلها - آها - علي إمام راح يسميه: قريبي الإمام موسي بن جعفر!!!

إني الآن أقول: فعلا - إن الرشيد هو الحزين، و لقد صدق الناس حزنه، و راحوا - ساعة تلك - يلثمون يديه معزين!!! و لقد صدقه التاريخ - ساعة تلك بالتمام - و راح يصف لنا دمعات حزنه: كم كانت رخية حمراء، ما استنزف مثلها - حتي الآن - إلا هذا الولي - الصامت - الكاظم - الصبور، الماثل حيا في الوجدان... انه الإمام موسي بن جعفر... يا له من إمام!!!

لماذا لا نقف وقفة جريئة في التحليل النفسي الذي يقدمه لنا الآن هارون الرشيد... لماذا لا نقول: - و في هذه اللحظة بالذات - و هو الطامر الإمام موسي بسنوات السجن، و سنوات القهر، و سنوات العذاب المنتهي الآن أمام فوهة القبر... أجل، لماذا لا نقول: ان هارون بالذات، و في هذه



[ صفحه 164]



اللحظة بالذات، قد تمت له يقظة جديدة، جعلته يبصر انه - وحده - المتجني علي ولي، ما كان يستحق الا محض الولاء!!! ألا فليذرف الآن هارون الدمع، لا علي الولي المسجي بقمصان الطهر - بل علي ذاته الهارونية المغطاة بقمصان العهر!!!

و اننا الآن نسأل: هل في دموع صاحب العرش إقرارا بمبرات الامام موسي؟!! و بالتالي ندم عليه ما ارتكبه الرشيد بحق الامام؟!! و لكن استطلاع البحوث الواردة في متن هذا الكتاب، تعود و تقول: ان البنية النفسية في هارون، شبيهة بقوس له طرفان معكوفان، واحد يقول: نعم، ليقول الثاني: لا... و دائما كن يقول هارون في طرفي قوسه: موسي مصيب، و صاحب مبرات... و في اللحظة ذاتها: ليس موسي مصيبا و صاحب مبرات... و سيكون الرشيد - أيضا - في هذه اللحظات الحزينة و الدامعة، نادما علي ما ارتكبه بحق الامام... ثم غير نادم علي ما ارتكبه بحق الامام... و لسوف يقدم التاريخ لنا تصديقا لما نقوله الآن، بأنه يقول مع الصباح كلمة، يتنكر لها عند السماء!!! ألم نره غريقا بحب البرامكة، يمحضهم مع الصباح كل الحب، و مع المساء يغمرهم بالموت الزؤام؟!!

ليس هارون الرشيد موضوع هذا الكتاب إلا بقدر ما كان فيه متجنيا علي إمام عجل في إذاقته طعم الموت... من دون أن يدري الرشيد، ان الموت - بمعناه الصارم - لا يطال الأولياء الأغنياء بفعل الفكر، و فعل الروح، و فعل المبرات؟ بل برفعهم الي درجات أخري، تطل من فوقها كل نتاجاتهم الفكرية، و الروحية، و المثالية، كأنها النباريس المنيرة، و التي لا تعتمر إلا ها كل المجتمعات الانسانية في استمرار وجودها فوق صفحات الأرض... و ها هو المأتم البارز الآن أمامنا تجاه مقابر قريش، يحدثنا مليا عن ان القيمة الكبيرة المتمتع بها الامام موسي، و هي التي تنحني أمامها



[ صفحه 165]



جموع الناس في بغداد، و هي التي تحرك الآن مقلتي صاحب العرش هارون الرشيد، بتذريف دموع ساخنة، تحمل الاحترام و التخشع - ليس أمام جسد بدأ ينحل الي و حل و حديد... بل أمام قيمة أخري بدأت تشهد لها أقواس المبرات، بأن بغداد، و الأمة كلها خلف بغداد، تحتاجها في التقويم، و التشذيب، و التمتين المحتاج الي أخلاق، و صدق في الحق، و العدل، و الصواب... و كلها كانت في مناداة الامام، قبل أن يغمض عينيه!!! و هي كلها ذات المناداة، لا يتردد غير صداها، في الجو الذي ملأه الإمام بهذي المبرات!!!

ليس بعد الغياب إلا رجوع آخر، هو رجوع الفكر الأصيل الي مجراه الذي دفق به الروح الأصيل...

إن في الحياة ردحا آخر، تماوجت به الحياة، من أجل الحياة الهادف بها نداء الحياة...

أما الامام موسي، فهو الدفقة الخارجة من فوهة الحق... و لن يكون للمجتمع، الا أن يناديها و يتأود بها حتي تستقيم خطواته...

أليست - هنا - حقيقة الإمام؟!! و نداءاته؟!!



[ صفحه 167]