بازگشت

رسالته في العقل


لم أتمكن من تناول رسالة الإمام في العقل، إلا و أنا أتمثله غارقا في معبد من معابد البراهمة الساجدين في حضرة إله عظيم و قدير، خلق الأرض، و الأفلاك، و كل المجرات، بلحظة واحدة، و جلس يتأمل ذاته في كل ما خلق و أبدع... لم يسجد الامام بين يدي إله جالس فوق أريكة، و هو يتأمل في كل ما أبدع... لأن إله الإمام موسي هو اندماج مطلق في كل ما هو كائن في حقيقة المطلق، أما سجوده الآن، فهو حركة من حركات التجريد، لم تجد أمامها إلا العقل المجرد من أنسوجة الإنسان، و هو الوحيد، البصير، المتمكن من الإشارة الي كل ما هو مبثوث في حركية الكون الذي هو في حقيقة المطلق.

لقد سجد الامام - فعلا - أمام قوة العقل، و راح يشيد به طاقة استيعابية فريدة، تأخذ العلم و تتفرد به، لاستجلاء المبهمات، و اكتشاف الحقائق المستنيرة بها مجتمعية الإنسان... وحده العقل هو المنبثق من نقطة



[ صفحه 173]



الجوهر، و هو الوجد ذاته في اندماجية الجوهر... أما الأمة النازلة رحيبا في اهتمام الامام، فليس لها غير العقل تتعهده بالرعاية و التقدير، حتي يتمكن - رويدا رويدا - من تذليل العقبات الكثيرة التي تعرق وصول الأمة الي الاستحقاقات الشهية!!!

و لقد بحث الإمام - بكثير من الجدية - عن كل الضفائر الممهدة للعقل نموا، و اتساعا، و تحقيقا اجتماعيا مجديا في فاعلية، و صدق، و حقيقة اندفاع... و هكذا اتسعت أمامه كل المصادر، المحتاجة اليها الأمة في تجهيزها منارا لكل فرد من أبنائها المجموعين باسم الرعية... و أظنه لمح اليها - هذه المصادر - بشكل عام في محتويات الرسالة - و بشكل آخر تطرق اليه مشروحا في أحاديثه العامة و الخاصة مع أبناء الرعية. و لم يتورع عن التلفظ بها أمام أولياء الحكم - أكان بصراحة أم بتوريات - قصد التخفيف من عنجهياتهم الضارة بمصلحة الأمة!

سيكون العلم مصدرا أساسا لتغذية العقل الفردي و الجماعي - و لقد رأينا كيف أن الإمامة المثلثة، و المؤلفة من أجداد الإمام، رصدت كل جهودها في اعتماد الجامعة العلمية، تنويرا للعقل، و توسيعا لدوائره في محيط الأمة... و ها هو الامام الذي هو تلميذ من تلاميذها اللامعين، يطلب من الحاكم توسيع الدوائر العلمية في كل أقطار الأمة، تعميما للوعي الذي ترتفع به سوية الأمة... و لكن الحكم لم يستجب للطلب، لغاية في نفس يعقوب! و راح الي زج الامام في السجون المعتمة، حتي لا يدير الجامعة التي توقفت، بعد أن جاهدت سبعين سنة في حقلها المثمر!!!

و رأي الإمام ان العلم يبقي مقصرا في تأديته العظيمة، ان لم تسانده كل الفروع المنضوية اليه: كعلم التاريخ، و علم الجغرافيا في جميع فروعها، أو أنواعها: التحديدية، و السياسية، و الاقتصادية... و كذلك علم



[ صفحه 174]



الحساب، و الفيزياء و الكيمياء... انها كلها دوائر علمية، توسع العقل في تفتيشه عما تحتاجه الأمة في جميع متطلباتها المعيشية...

و كذلك رأي الامام ان الأمة بحاجة ماسة الي عنصر خلقي متين التركيز، هو الدين في فلسفته الشاملة كل حيوية من حيويات المجتمع، و لولاه لعم اليباس كل النهج، بعدم تركيزها علي قيم تضبطها من الفكر، و الالحاد، و الزندقة؛ من دون أن تجمعها مثل قويمة من حق، و صدق، و عفة، و إيمان... و كلها ضوابط إجتماعية خيرة؛ تجمعها التقوي في حيز من الخير الصائن المجموع من الانفلات... و لن تكون التقوي إلا نابعة من الإيمان بالله الذي لا تراه العين، و تراه البصيرة... و لا تدل اليه الصفات و تدل اليه مطلق الموصوفات - و لا تحصره الأمكنة، و لا الآجال، و لا الأزمنة... و لا أية من الحركات؛ لأنه قبل الوجود و بعد الوجود، و قبل الافاضة و بعد الافاضة، سواء بسواء... أيكون للشمول تحديد الشمول؟... و يبقي الشمول بغير حد، لأنه ذاته هو الفضاء!!!

و التقوي؟ - و ليست غير إيمان بالله - هي الموصوفة بلغة الأرض: بالفضائل الإنسانية التي هي محض صفات اجتماعية، تصون المجتمع من كل آفة يصاب بها المجتمع و ينشل الي خراب!!! و لا ينهض المجتمع الي بناء و عمران، إذا يشيع فيه: الكذب، و الزور، و البهتان... فلا الزني يبنيه، و لا الخلاعات الحمر، و لا شهوات الذئاب، و لا أية شريعة من شرائع الغاب!!! و يبنيه: الطهر، و العفاف، و الصدق، و الحب النبيل، و الحرمات التي تصونها الاستقامات، و العدل في توزيع الحصص، و ضبط الحكام في مسؤولياتهم الإدارية، من دون أن يخونوا الأمانات!!!

تلك هي التقوي التي هي حقيقة الدين الذي ما وني يبشر بها الامام، في سره، و في جهره، أمام الناس، و أمام الحكام... لا ليصير صاحب



[ صفحه 175]



عرش... بل ليبني أمة تخلد بها مآتيها الي أبد الدهر...

و هذه التقوي بالذات؟ من يدركها في حقيقتها من الصواب؟ غير العقل الذي يطلب له الامام زيادة نمو، و فاعلية، يساعدان الأمة في إنالتها رجاء يخلصها من كل ما يعبد عنها هذا الرجاء!!! و انها الدوافع ذاتها، كانت تنام في غزارة الامام الكاظم الغيظ في لبه، فراح - في لياليه المليئة بالحزن - يخط علي قرطاسه رسالته في العقل، يقدمها الي الأمة، و الي الحاكم بالذات، علي أمل منه بأن تتحلحل الأمة الي وعي يفيدها - و علي أمل - أيضا - يوقظ الحاكم الي تخفيف من جوره تفيد منه الأمة بعض الرجاء!

و أقول: لو كان للإمام تمتع ببعض أمان يبعد عنه عتمات السجون، لجاءت رسالته في العقل في دفتين وسيعتين تضاهيان حجم نهج البلاغة! و لا غرو، فان ابن جعفر هو الحفيد الموصول القطب بالقطب الذي هو جده الأكبر!!! يا للإمام ابن أبي طالب، لا يزال المحيط الهاجعة فيه فرائد الدرر!