بازگشت

رسالته في التوحيد


و من جملة ما اشتهر به الامام موسي في حقله الفكري الثمين، إنشاؤه رسالة مخصصة بالتوحيد، أي توحيد الله العظيم في كل قضايانا الفكرية و الروحية و المعتقدية؛ لأن الله - جل جلاله - هو المصدر الأبدي، و الأزلي في وجودنا المطلق، و إن مآلنا اليه هو المآل الأوحد و الأصدق، و لا يجوز للأمة إلا أن تتوحد به ضابطا لها - بصدق - كل شؤونها الحياتية!

ان الموضوع - بحد ذاته - جليل و واسع الأهمية، و إن البحث فيه لا تكفيه رسالة في عدة صفحات موجزة، بل كتاب مجهز بمئات الصفحات، تمتنه التحاديد العقلية، الفلسفية، الروحية، و تشرعه الآيات البينات، بلسان الصدق، و لسان المنطق المؤمن بإله واحد و موحد في كل ما لا يحدد من فضاء الكائنات...



[ صفحه 176]



و الحقيقة التي لا تنتقص أنملة واحدة من القيمة الإدراكية التي يتمتع بها الإمام... ان البحث هذا، ما تمكن الإمام من تقديمه إلا في عدة صفحات موجزة، في حين ان التوحيد [هو دين الإسلام، و قرآن الإسلام، و معتقد الأرض كلها، في خضوعها بين يدي إله خالق واحد، هو إله الإسلام] إنما هو بحاجة الي كتاب وسيع و عريض الحواشي، يكون شبيها بنهج البلاغة، يشرع فيه الاسلام الوسيع الحدود، في ظل التوحيد الذي هو جوهر الاسلام... و الامام موسي هو المتمكن الممتاز في إملاء مركزه الإمامي بكتاب من هذا الوزن!!!

و لم يتمكن الامام من مثل هذا الإنجاز، لا لسبب إلا لأنه يتطلب تفرغا يلزمه الوقت الطويل للقيام به!!! و يكفينا أن نعلم أن السجون المعتمة - و قد زجه فيها صاحب العرش هارون الرشيد، علي مدي مرقوم بسبعة عشر عاما - هي التي و فرت للإمام، ساعتين من الوقت، حبر فيها رسالته الصغيرة في التوحيد، و أرسلها الي من طلبها منه... و أظن اسمه: الفتح بن عبدالله: انه مؤمن محتاج الي توضيح يفسر له حقيقة التوحيد!

و رسالة التوحيد - هذه بالذات - جاءت مشروحة علي أوسع و أتم، في رسالة الامام السابقة، و قد تناولناها ببعض الشرح، أنها رسالته في العقل... و هي رسالة - أيضا - وجهتها الأمة الي الإمام، طالبة منه شرحا عن العقل، و تعيين مقدار ما يلزمه منه مجتمع الأمة... و لقد أجاب الإمام الأمة، و خصها برسالته في العقل، و هو يتمثلها باسم «هشام»، و راح يملي عليه - بل علي الأمة - بالذات - كل ما يعينه العقل، و كل ما تحتاجه الأمة من العقل الذي هو وعي الأمة، و حقيقة الأمة... و كذلك راح الإمام يشرح للأمة معني التوحيد الذي تحتاجه الأمة في وحدتها المؤمنة بإله واحد قدير و جبار. يغمرها بكل ما تحتاجه من مواهب و صفات، حتي تحقق وجودها الأمثل فوق صفحة الأرض!



[ صفحه 177]



هكذا جاءت رسالته في العقل، و هكذا جاءت رسالته في التوحيد: موجزات صغيرة في ظل معاني كبيرة، لا تفي بتوضيحها و شرحها إلا المجلدات... و لقد فهمنا ان الوقت القصير و الحزين، هو الذي جعلها قصيرة، و لم يكن موفورا للإمام إلا الوقت الصغير لإنتاجه الذي اكتفي بالتلميح اليه التلميح الموجز... و الأمة - بدورها - قد اكتفت بالتلميح، تأخذه منه الي دخيلتها الي تمن - علي هذا التلميح - بالتصريح و التوضيح!

هنالك حاجات عديدة كانت تفتقر إليها الأمة في مسيرتها فوق هذه الشعاب المليئة الآن بالشوك و الهشيم!!! و كان الإمام ملتاعا: كيف يمكن الأمة من اجتيازها بنوع من أمان... أو كيف يكون لها تحملها بنوع آخر، من تصبر و طول أناة... و ها أني مستعد الي ترقيم بعض منها. و كيف كان الامام يقوم بتقديمها للأمة: بتلميح بليغ الإشارة، و صدق صادق الأداء و بارع الفن.

دائما هو التلميح... و لقد كان وحده هو المتاح للإمام اللجوء اليه، بنوع من حكمة و روية، من دون الانصراف الي المعالجات الموسعة و الصريحة التي يتطلبها منه مركزه الإمامي... هنالك - مثلا - ظهور فرق راحت تشيع الفوضي في العقيدة الاسلامية... و كان الحكم بالذات يرضي بانتشارها لتفسيخ الشعب، لا لجمعه في وحدة فكرية و سليمة، تطالب الحكم بأن يرعاها و يتعهدها، من أجل رفع الأمة الي مرحلة ناهضة بها!!! لم يتح وقت للإمام للقيام بشروحات تحقق هذه المماحكات السفسفطائية التي اجتهد بإشاعتها كل من الكيسانية، و الزيدية، و الإمامية الفطحية... من دون أن تتواني عن القيام بمثلها السمطية أو الخطابية، أو الناووسية و الاسماعيلية، أم القرامطة و الواقفية... أجل - لم يتقدم الامام بأي بحث يرد هذه الفرق الي الخط العقائدي الموحد الذي تقوم به، موحدا و مجردا - أطروحة الإسلام - بل راح سريعا - و بقدر ما يسمح له قصر



[ صفحه 178]



الوقت - الي إنشاء رسالتين متتاليتين، لابد لهما من أن تردا هذه الفرق كلها الي جادة الحق، و جادة الصواب... أما الرسالتان فهما: رسالة في العقل، و رسالة في التوحيد.

هذا هو التلميح الذي كان الإمام متمكنا من اعتماده في الفرص التي كانت تتيحها له هنيهات الحاكمين المتعسفين... و لم يكن - هذا التلميح بالذات - يبدر منه، إلا سرا لحاجة ماسة، كانت تتطلبها الأمة في حين ورود هذا التلميح... و ها هي - هذه التلاميح - نستعرضها خارجة من بال الإمام، و لكن بكل إيجاز، لأن الإيجاز بالذات، هو ما كان متاحا لفضيلة الإمام: