بازگشت

جسر الرصافة


و جثمان الامام؟! انه المطروح الآن فوق جسر الرصافة في بغداد - و جسر الرصافة مؤلف من دعامتين عريضتين، تجعلان الجسر في خطين وسيعين لمرور الجماهير الوافدين الي بغداد عاصمة هارون الرشيد، و الخارجين منها - ليل نهار - ان مياه دجلة العظيم، هي التي تزين الجسر المزدوج و المقسوم، بمرورها المرتفع العباب، من تحت قناطره العالية و المتينة المداميك، و من فوق الجسر تمر جماهير الناس الوافدين و الخارجيين، مع توقف ملحوظ علي أسواره المطلة، للتمتع ببهجة تدفق المياة المنسابة تحت القناطر التي زينها - بالرصف الجميل الأملس - هذا التموج المائي المرغي، كأنه مرور الغمام الدائم، تحت مسارب الجسر، حاملا معه هزيجا موسيقيا، لا تهتز إلا به ألباب المشاعر!

يا للأمة العظيمة، لا يستهويها، في حقول الجمال، الا غزير دجلتها الهادر بأمواج الجمال، من تحت جسر الرصافة، و قد بنته الأمة - مرصفا بكل أناقات الجمال!!!

و يا لهارون الرشيد، يملك الآن بغداد، و ينشي ء فوق مرابعها عرشا



[ صفحه 196]



كأنه جسر الرصافة - هنيئا له جسر الرصافة، يعرض من فوق قناطره المرتاحة، أنموذجا من نماذج الصدق، مات، و لم يصدق الناس أنه مات... فجاء سيد العرش يعرض جثمانه علي الملأ الغفير الوافد - يوميا - الي بغداد، و الخارج - يوميا - من بغداد، مثبتا لهم حقيقة، لم يؤمن بها أولئك الناس؛ و هي أن صادقهم هذا - قد فارق الحياة و مات... و ها هو جثمانه يثبت: انه - فعلا - قد مات!!!

و هكذا تم عرض جثمان الامام موسي الذي خطفته المنون الي حضنها الأسود، بعد سبعة عشر عاما من السجن المؤبد، بواسطة ثلاث حبات من العنب المحشو بالسم!!! لقد بقي العرض ثلاثة أيام - بأكملها - فوق قناطر جسر الرصافة... و من بعدها حفر للجثمان جدث صغير في الضاحية من بغداد، حيث هي محفورة جدثان بني قريش.

لم يطلب لي إلا أن أوقف مركبة الزمان في زحفها نحو الأمام، و جعلها تدور بي الي الوارء أكثر من ألف سنة، الي حيث رحت أشاهد العرض المدهش الذي حشره الآن هارون الرشيد فوق قناطر جسر الرصافة... و يا للتوق الخارج من جيوب الخيال، ينقلني كأنه الخطاف، و إذا بي في فجوة صغيرة محفورة في مدماك السور القائم فوق الجسر البديع، أشاهد من فوق صفحته الفسيحة كل الجماهير المتزاحمين للتبرك من الجثمان المسجي فوق القناطر - و كانت هكذا تتم تحت عيني فصول المشاهدة: من الصباح الباكر، حتي المساء الزاهر، و من المساء هذا، الي الصباح الوافد و علي مدة ثلاثة أيام كانت المشاهدة:

- في وسط باحة الجسر دكة تعلو عن الأرض عدة أمتار، يجلس فيها سيد العرش، و معه السندي بن شاهك،



[ صفحه 197]



و حولهما حشد من الحراس كأنهم للمشاهدة و المراقبة، و للتسجيل الملم بكل حركة يقوم بها جماهير الناس... أما الناس فكانوا المسرعين بمرورهم من تحت الدكة، حتي يقفوا مليا أمام الجثمان المسجي، و هو مغمض العينين علي صمت رهيب، و مشرق الوجه بأسارير ينام فيها عبق العطور.

- لقد غصت باحات الجسر الفسيح بازدحام ندر أن تلمست مثله هذي القناطر... إلا أن تدخل الشرطة - بين الحين و الحين - كان يسهل عبورا بعد عبور! غير ان الاصغاء الي همسات بعض العابرين، كان يترك بهجة خاصة تغمر الجماهير المتزاحمين حول الجثمان، قبل أن يتركوا المكان للآخرين... حتي أن القابعين في دكة العرش، كانت تتناولهم هذه البهجة، يتناولونها بالسر، و هم يتفاعلون بها - أيضا - بالسر...

- و لم يتوان رجال الشرطة المندسون بين الجماهير، عن طرح بعض الحوارات المتعلقة بوفاة الامام، و كيف ان وفاته هذه جاءت طبيعية و بريئة من اتهام الآخرين... لم يقابل الجمهور - بأكثريته - مثل هذه الحوارات الا بامتعاض صامت، يودعون به الجثمان، ثم ينسحبون!!!

هذا معظم ما شاهدت، و أنا في لطوة المراقبة... اما ما سمعته بأذني المصغية، و ما استنتجته بحدسي الماثل في يقظة الظن - فهو الذي رجعت به الي ذاتي المصغية الي حفيف الأحداث التي حصلت حول الجثمان المعروض فوق جسر الرصافة، قبل أن يحمله سليمان بن أبي جعفر



[ صفحه 198]



المنصور، و يسلمه الي الامام الرضا بن موسي الكاظم: فيغسله، و يحنطه، و يلفه بحبرة بيضاء اشتراها له - سليمان - بألفين و خمسماية دينار، و بها أنزلوه في جدثه الأخير في مقابر قريش القائمة في ضاحية من ضواحي بغداد!



[ صفحه 199]