بازگشت

همس فوق جسر الرصافة


و التجمهر؟ انه - عادة - يؤلف اللغط، ثم الهمس الذي تتلهي به الآذان... غير ان اللغط - في هذه المرة - لم يتخبط به جسر الرصافة... و ساد الهمس أرجاء المكان! لقد أحسست بذلك و أنا في لطوتي أحصي خطوات الحاضرين في الساحة... لقد كان جميع المودعي جثمان الامام، لا يتركون المكان إلا بعد أن يؤلفوا خلايا خلايا، يتهامسون فيها، بعض الوقت، ثم يتصافحون و ينسحبون - و كنت أتساءل في عمق ذاتي: بماذا تراهم - جميعهم - يهمسون؟ مع أن الموضوع هو واحد موحد: و عنوانه جثمان الراحل... أما السؤال الماثل: كيف يقيمون الأمام؟ و ما هي الصفات التي يلفلفونه بها، و هي منه في الصميم؟!!

ما طالت علي موجات التساؤل، و إذا بي - و أنا قابع في لطوتي - أفاجا برجل جليل المهابة، و معه ثلاثة من أبنائه - كما يبدو - يتمشون بانفعال، و ها هم يتوقفون قربي، ثم يجلسون علي رصيف الجسر، من دون أن يلمحوا ترحيبي بهم، و قد فتحت أذني الغارقتين في تلافيف الذات، لأتلقي منهم همسا خافتا بكل ما في أسارير وجوههم من انفعال!!! و رحت أصغي،



[ صفحه 202]



و رأسي بين يدي ملفوف بالرجاء... قال الشيخ - و في همسه الخافت ما يشير الي زوبعة لا تزال هادرة في نفسه - و هو يحاول أن يلجمها: بالتأني، و التجلد، و التمسك بحبال الصبر:

- ماذا أقول يا أبنائي الأعزاء - و أنتم أملي في امتداد يومي الي مجالات الغد!... ماذا أقول لكم، و قد لبيتكم، و جئت معكم لتشييع جثمان من عاش، و مات، من أجل أن يبني لنا - جميعا - مآتي الغد!!! ماذا أقول لكم؟ و ها هو الجثمان معروضا في هذا العراء البائس الممدود فوق جسر الرصافة!!! و ما هو جسر الرصافة؟ أليس حضانة كريمة لدجلة العظيم، الخالد الآتي الي بغداد محملا بالخير. و الخصب، و كل أطياب العافية؟!!

و ها هو الرشيد الذي شاد له جسر الرصافة عرشا موشي القوائم بالدر و المرجان. و كل أنواع اللآلي!!! يحول جسر الرصافة الي باحة بهلوانية التهريج، يعرض فيها جثمانا، ما بقي منه إلا الجلد و العظم!!! أخرجه من سجن مؤبد، لم يكن طوله سبعة عشر عاما، بل سبعة عشر ألفا من الفراسخ المحشوة بالذل و الهمجية، و الكفر!!!..

أي جثمان عرضه علينا هارون الرشيد، و هو يدعونا الي التشييع، من دون أن نذرف أية دمعة ساخنة؟!!

أجل - أي جثمان عرض علينا أميرالمؤمنين؟!! أجثمان الامام موسي بن جعفر؟ أم جثمان السجين الذي واراه الثري - صاحب العرش المزهي بالأرجوان - منذ أكثر من سبعة عشر عاما... كأنها سبعة عشر قرنا، من قرون



[ صفحه 203]



همجية الانسان، في حيوانياته الجاهلية البائدة!!!

ماذا يريد هارون الرشيد من عرض الجثمان في العراء؟!! أيريد أن يثبت لنا ان الامام موسي قد مات؟... ألا ترون معي أن الرافضي الذي سمعتموه يتكلم منذ ساعات، هو الذي أفحم قائد الشرطة، و ثبت له: ان الذي مات ليس الامام بالذات، بل أن الذي مات هو هارون الرشيد بالذات...

ألا بئس عين تري مجدها باديا في العراء، و لا تراه مغمورا بالغباء!!! و بالخجل: نبكي، في حين يجب أن نضحك، و نضحك في حين يجب أن ننتحب علي كل ما فقدناه من جمال و عزاء!!! و ها هو هارون الرشيد - هارون المخامل و البرفير - يجمعنا فوق جسر الرصافة، لنضحك، لا لنبكي... بينما هو - لو يدري - يبكي و هو يضحك!!! و يا للبهلوانية! تبدي لك عكس ما تقصد!!! أليس قصد البهلوان أن يهزأ منك؟ فإذا هو - بالذات - يعلمك أنت كيف تهزأ به!!!

أجل، يا أبنائي الأعزاء! ماذا تريدون بعد مني أن أقول؟!! و ها اني أختصر القول:

لو أنه كان لهارون الرشيد إصغاء رشيد للإمام موسي، لتنزه عرشه من ألوان الغدير!!!

لم يكن للإمام موسي إلا أن يرزم نفسه في عمليات النصح و الإرشاد: لا للرشيد المتبوء العرش في بغداد، بل الأمة



[ صفحه 204]



كلها الخاضعة أمام العرش، و هي الجامعة دجلة تحت الجسر، تسقي بها الحقول الممدودة حول بغداد... لقد قال لهم، بلسانه: زين العرش يا هارون: بالحق، و العدل، و كل أنواع الاستقامات، حتي يبقي لك العرش، و للأمة التي لا تبنيها، و تنميها إلا الاستقامات... أما الاستقامات، فقد شرحها بالتفصيل، و عاشها بالأقوال و الأفعال... شرحها: بتقواه، و بخلقه الكريم، و بأفعاله الخالية من غبار، و بكرمه النفسي الصافي، و بصبره الطويل علي الأذية و المكاره... و إلا... لما لقبناه، نحن الأمة، بالصابر، و الزاهد، و ذي النفس الزكية، و الكاظم، و باب الحاجات!!! و لكن الرشيد لم يصغ الي النصح - و بدلا من أن يفسح الساحات أمام من سدد الآيات - فتح السجون كلها، و دفن فيها الناطق بالآيات!!! و بدلا من أن يشرع أبواب قصره لاستقبال المشيعين المدعوين للتبريك بالجثمان - أنشأ دكة و اعتلاها فوق جسر الرصافة، لا لمشاهدة المؤمنين، بل لمشاهدة المهرجين الذين راح قائد الشرطة يعلمهم إتقان التهريج!!!

ما كاد يصمت الشيخ، حتي هببت - أنا - من ملجأي الصغير، و جوانحي تصفق لمقالة الحق!!! و لكني بوغت بضجة واسعة آتية من تحت الدكة الجالس فيها صاحب العرش!



[ صفحه 205]