بازگشت

همس في أذن الرشيد


جل ما حصل: أن الشيخ الوقور سليمان بن أبي جعفر المنصور - و قد عرفنا قليلا عنه منذ هنيهات، و تبيناه في حواره مع قائد الشرطة، و الرافضي، كم هو حر و شريف، لا يماري في قوله الحق... و لقد فهمنا انه عم هارون الرشيد، و تربطه - في ذات الوقت - بالامام موسي، قرابة وشيجة، و احترام - أيضا - صادق الوشيجة...

لقد كان الشيخ سليمان هذا، من جملة الحاضرين في عملية التشييع المزعومة، و الملعوب بها فوق جسر الرصافة... لقد كان يتمشي بين الجماهير، و هو يحلل اللعبة اتي قام بها هارون الرشيد، بعرضه الجثمان المكشوف فوق جسر الرصافة... و لكن التحليل ما جاء عليه إلا بنفور بالغ الخطورة، جعله يجمع رجاله الأشداء و يأمرهم بخطف الجثمان من الساحة، الي حيث أجري غسله، و تحنيطه، و تعطيره، و لفه بالحبرة البيضاء التي كفنوه بها....و ها هو الجثمان في الأهبة اللائقة به... انه محمول علي الأكف، بعد أن استدعي هارون الرشيد للنزول من دكته العالية، ليرأس الجنازة، و يسير بها، من جسر الرصافة الي محارم مقابر بني قريش!!!



[ صفحه 206]



أما أنا - ذلك اللاطي في شق صغير قائم في مدماك رصيف الجسر - فإني انسحبت لأندس خلف الصف المؤلف من السندي بن شاهك، علي يمين صاحب الجلالة، و من سليمان بن أبي جعفر المنصور، علي يسار صاحب العرش... و مشي ركب الجنازة - و أنا أعلل أذني الموسعتين، بسماع الهمس... و لم يسمع - يا للحق - إلا الهمس!!!

و سار الركب، و كان السير ثقيل الوطء... أما الشيخ سليمان الشديد الانفعال... فكان يغالب انفعاله، حتي لا يجرح به شعور أميرالمؤمنين! و لكن همسه - بالذات - لم يبرأ من الوطأة الملجومة... و بعد بضع دقائق بدأ و ميض الشرارة... و بصوت، ظنه الشيخ سليمان، خافتا، و لم يكن بالخافت، قال في أذن الرشيد:

- لم أدر حتي الآن يا ابن العم: ماذا قصدت بعرض الجثمان في عراء جسر الرصافة؟!!

تبسم الملك قليلا و أجاب:

- حتي يتأكد الناس أن الامام قد نام نومته الأخيرة، و لن يقوم منها حتي في يوم القيامة!!!

و حدج الشيخ الملك بعين مقعرة و أجاب:

- و كيف تقنع الرافضي بأن الامام قد مات، و هو لا يراه إلا حيا؟!!

و بابتسامة منه أكثر جدية من الأولي، أجاب الملك:

- هذا شأن الرافضي... فليقم الرافضي مولاه... و ليتمش معه مع المتمشين فوق عرض و طول جسر



[ صفحه 207]



الرصافة!!! و لكن إقناع الرافضي بأن الإمام قد مات... هو كل مبتغانا... أقنعه - أنت بالذات، يا عم... بأن الامام قد مات... أتدري لماذا؟... لأجل أن يرتاح بال العرش من كل من ينام تحت الرتاج... و هو يحلم بأنه يسترد العرش اليه مع هلهلة الصباح!!!

قال الملك ما قال... وصمت - كأنه قال كل ما يجب أن يقال!!! أما الشيخ سليمان، فإنه راح الي تأمل آخر، جعله يهز رأسه علي مدي دقيقتين طويلتين... ثم لوي عنقه نحو الرشيد، و قال:

- لا أريد أن أطيل حديثا و نحن ماشون في جنازة!!! و لكنني أو من بك تتفهمني، في قليل من بحث، و قليل - أيضا - من جدل... فأنت ذكي يا هارون، و لن يمنعك عن التمادي في الذكاء، أو عن الاستجابة لكل مفاعيله، إلا عرش و سلطان، يضغطان عليك بالبقاء فيهما، مهما يطل بهما غرور الزمان!!!

هذا هو حظك الآن من الملك - فاسمعني:

كل ما فهمت من جوابك المختصر: انك تسي ء الظن بالامام، و تحسبه متآمرا علي العرش، لاسترداده اليه،، و هو وليه منذ أن فقدنا الرسول، عليه السلام... ما لنا و الحقوق المشروعة، انها تستدعي غوصا آخر، قصر عن أدائه الجدود، و نحن نقصر عن أدائه الآن... و لكن الامام موسي، لم يشأ مطلقا زج ذاته، و زج العرش، و زج الأمة كلها، في مماحكات و مراهنات، ترمي الجميع في قهر، و خيبة، و امتهان!!! كل ما رآه الامام، و من قبله ثلاثة من



[ صفحه 208]



آبائه الكرام: ان الأمة - كلها - و من ضمنها الآن عرشك الباهر اللمعان - لا يفسخها، و لا يذلها، و لا يشل فيها المآتي... إلا جهل عقيم و مقيم، قذف بني أمية الي ماهية السلطان ثم قذف - أيضا - بني العباس الي بهجة السطان!!!

لقد عقدت أنا بالذات... عدة جلسات بحثية مع الامام.. و أنا مؤمن بصدقه، و غيرته، علي الأمة التي هي مأخوذة بروعة الإسلام... و أقسم لي الإمام بأنه لا يقدس إلا العرش في ضبط أمور الأمة التي هي حقيقة الإسلام - شرط أن يكون العرش مشعا بنور الحق، و روعة العدل، و شرف الخلق السميج بالتقوي، و كل الاستقامات!!!

هذا هو كل ما يبتغيه الامام، و كل ما ينهجه الامام، في القول، و الفعل، و حقيقة المسري... و لم يتأخر في مجابهتك بالنصح، و صراحة الوعظ... فظننت أنت، أنه يلهيك بالقول، و يذهب بالفعل الي تدبير المؤامرات لتقويض العرش، و استرداده اليه... كأنه - هو - به الأولي!!!

و الحق يقال - لقد استشير الامام كثيرا - و حتي أنه استدعي - من قبل الطالبيين العصبيين، لقيادة انتفاضة حسبتها أنت ثورة تنحي العباسيين عن العرش مع انها أقل من عصيان، علي الحاكم أن يعالجه برفق، و عطف، و اتزان... و كان الامام موسي، مع أبيه جعفر ضد أية انتفاضة - حتي و لو قدر لها أن تنجح، لأنهما كانا لا يريان



[ صفحه 209]



العصيان، إلا و يهدم الأمة التي لم يشملها - بعد - وعي يسير بها لإتمام مسيرتها فوق الأرض...

هكذا ارتأي الامام موسي أن إصلاح العرش، بمضامين الفهم، و الحق، و العدالة، هو أقرب من القيام بثورات غير واعية و مدروسة... و لن يكون منها - في النتيجة القاسية - غير تهديم الجماعة!!!

صدقني يا هارون: إني أشرح لك - باختصار - حقيقة الامام موسي - رحمة الله عليه - فافهمه مثلي، و احترمه مثلي - و اذكره بالخير مثلي - و واره الآن الثري، و أنت ذراف عليه دمعة ستحييه مع الرافضي الذي يأبي رؤيته ميتا، بل حيا بكل القيم التي بشر بها قبل أن يصمت... انها - هذه القيم بالذات - لا يطول عمر العرش إلا بها - و كذلك الأمة - فإنها - بها - تنمو - حتي تتمتع بالخلود!!!

ما انتهي همس الشيخ سليمان، إلا و الجنازة قد وصلت الي حي المقابر، فحفروا الجدث الذي واروا فيه الجثمان الذي بقي معروضا ثلاثة؟ أيام فوق جسر الرصافة!!!

و تقبل هارون الرشيد تعازي المحتشدين، و دمعتان سخيتان تتلألآن علي خديه، ما فرح - إلا بهما تتلألآن - الشيخ سليمان!!! لقد تأكد له أن الدمع هذا، هو الآن دمع الندامة.



[ صفحه 211]