بازگشت

هارون الرشيد


و هارون الرشيد! ليس لنا - أيها السيد - غير أن نلقي ستارا علي ما نواه الرشيد من إنامتك فوق القناطر... صحيح ان القصد كان في امتهانك في العراء، تحت عيون الجماهير، و لكن العكس - بالتمام - جاء مصداقا علي أفك هارون الرشيد، و انه ما أضمر مرة خيرا، إلا و كان الشر مبيتا في نفسه... أما أنت، فلم تكن بحاجة الي قنطرة تعليك فوق المداميك، بل كنت المدماك العالي فوق القناطر الموصولة بكل الرموز... و لكن في الأمر سؤالا آخر، و ها اني أقول:

لم يكن الرشيد نكرة من النكرات: فهو ذكي يشهد بالذكاء له الشيخ سليمان بن أبي جعفر المنصور... فلماذا لم يفهم، لا نصائح، و لا مواعظ الامام، و كلها ينقل الرشيد - و هو أميرالمؤمنين - الي حاكم عادل راشد، تعتز به الأمة، و تخلد له الأجيال في اتصافها به؟!! ألم يفهم هارون، ان المجد كل المجد، هو مما يحوزه الحاكم من نزاهة الحكم، بحيث ينقل الأمة من فراغ الي امتلاء، و الرعية، من تنكر الي سعادة و وفاء؟!!

كأني مصغ إليك أيها الإمام، و أنت الماثل رفيعا فوق القناطر - تثبت



[ صفحه 220]



لي ان الرشيد ذكي، و لم يفته ضلع من أضلاع الفهم... لا الفلسفة فاتته و لا تلك الفطنة اللمامة،... و لا النصائح و لا المواعظ، و لكنه لم يرد أن يفهم، و ذلك هو كل البلاء!!!

و فهمت أيها الامام... و بدأت أشرح للناس، ما لا يزال يؤخر الناس عن التدرجج فوق السلالم... و قلت بشفتي الملعثمتين: ليس هارون الرشيد الفاهم الوحيد بين الرجال... حتي ان البسطاء السادجين يتملكون الفهم الذي ينطق به العلم، و الرشد، و كل شروحات المنطق... و لكن الفهم الذي يجب أن يفعل، فلن يكون إلا بتدرج نسبي، يمشي به، علي الأرض، و علي الدروب، و فوق مدارج الساحات - كل المشاة، بتحسس و تلمس، ينقلبان - يوما بعد يوم، وجيلا بعد جيل - الي مران و ترسيخ و اتزان... لم يذق هارون الرشيد، و لا أي حاكم قبله، لا من بني أمية، و لا من بني العباس - مثل هذا الفهم المتدرج به، بواسطة التحسس، و المراس، و المران المرسخ في الأذهان، و المنقلب الي جلاء الوعي، و حقيقة الاتزان، و نقاوة الوجدان!!! المراس الطويل هو الناقل الفهم الي حقيقة الفهم، لتكون له حقيقة الترسيخ، لا في الأبدان، و حسب، بل في ظنون النفس، و في خلايا الوجدان... ان من ذلك كله يتألف هارون الرشيد: يأخذ الكرسي زهوة سلطان، و زهوة مجد و عز، و غني مفتوح علي كل ما في الرغوات من شهوات!!! أين هي الكوابح؟ و من أين يجي ء فترده الي صواب؟! ان الأمة بالذات، عندما يمتلكها الفهم الآتي اليها من سلالم المران، و طول المران، هي التي يهب بها الوعي الأصيل الخارج - أيضا - من عب الممارسات الموصولة بحلقات المران، و في التو الجاهز، يرتجع الحاكم عن زيعانه... أو - بالأحري - ان الحاكم المتهم بالزيغان، لن يكون موجودا في تلك اللحظة الحاملة مثل هذا المراس، و مثل هذا الاتزان!



[ صفحه 221]



ليت هارون الرشيد - أيها الإمام - كان مؤهلا بالفهم المرسخ في الأذهان، و في الوجدان... لكان لك - به - التقاء آخر، يزيد جلوته الي مستوي مرقوق، و يطيل عمره الي طمأنينة غنية بالسعادة... و يطيل عمرك - أنت - أيها الإمام، بلا سجون تكظم فيها الغيط الذي تحملته بالتصبر، من دون أن تتمكن من إيصال الأمة الي فهم تناله مقرونا بوصلات المراس، و المران، و الترسيخ المركز في جيوب الوجدان!



[ صفحه 223]