بازگشت

والأمة


و الأمة؟ كل ما لنا من تحاديدها الطبيعية، و التاريخية، و الجغرافية، ان ندرك انها عظيمة، و واسعة، و شاسعة، بكل ما فيها، من خصب، و أقاليم، و ماهيات بشرية متعددة النزعات و المفاهيم، لقد كان يجمعها الاسلام، من دون أن توحدها المفاهيم، أن تنظمها المناهج... غير ان الامام موسي، و هو طالع من اختلاءات نفسه، حاول جمعها بالفضائل، و بالصبر، و بالتأني، من أجل العبور بها الي ظروف موالية، تحقق فيها ما ينجيها من الكوابيس التي مرت بها من عصر أموي ضاغط، الي عهد عباسي آخر تكاد تنحصر فيه كل البلية!!! لقد تبينا كل ذلك في سياق هذا الكتاب، أما التوقف الآن عند طرح استفهامين متعلقين بالعرش، و بالتالي بالأمة، فلكي يكون لنا تفسير تستفيد قليلا فيه الأمة، في معالجة الأمور التي يحملها اليها الغد!

لقد كان الاستفهام قائما في استكشافات الاسباب التي حالت دون إفهام الحاكم هارون الرشيد، بأن العدل و الحق يحققان له مجد السيادة، و فهمنا ان الفهم لا يكفي في عملية الاصلاح، ما لم يقترن بسلسلة اخري من الممارسات الدائمة التي تجعل الفهم أصيلا في النفس، و فاعلا في حقول



[ صفحه 224]



الإرادة... و لكن الجواب كان بحاجة الي تفسير أوفي، و لهذا جاء الاستفهام التالي، من أجل بعض التوسعة!

أما الاستفهام عن الأمة، فكان بهذا المعني: لماذا لم تفهم الأمة؟ أو لماذا لم ينقلها الفهم الي الوقوف بوجه الحاكم المستهتر بأمورها الحياتية أو العمرانية، و المتعلقة بكل شؤونها الإصلاحية... و الانمائية، و الحضارية!!! و ليس غير الأمة - من فاعل لا يغلب - يتمكن من عملية الزجر؟!!

لقد كان الجواب علي الاستفهامين من مورد واحد، أما التوسعة هذه، فهي التي تزيدهما شرحا و إيضاحا... و الحق يقال: لم يكن الذكاء محصورا بالرشيد، فهنالك، بين طبقات الشعب، أذكياء منتشرون، و كان الإمام موسي يشرح لهم كل آرائه الفلسفية، و الفكرية، و الاجتماعية... و كانوا يصغون، و يفهمون... و لقد سمعنا الرافضي يحاور قائد الشرطة بفهم خارق الإدراك، و سمعنا كذلك الشيخ سليمان يملي علي الرشيد أميرالمؤمنين، موعظة فيها كثير من بعد، أليس هذا الفهم المتبادل بين الرجال الثلاثة، و قد ذكرنا أسماءهم، و الذين يوجدون بين ظهراني الأمة بعدد وفير؟... فلماذا لا يفعل الفهم لا مع القلة الممثلة بالرشيد، و لا مع الكثيرة المنتشرة في الأمة... و لقد قدمنا انموذجين منهم، و هما الشيخ سليمان، و الشيخ الرافضي...

و لكني لا أري الجواب إلا سهلا يسيرا، و أكرر القول: ليس الفهم وحده هو المجترح الاعجوبة... سيبقي هذا الفهم كلاما أسير الحروف، قبل أن يكون فعلا حاضر الحركة... و الحركة فيه انه فعل جامد، و لن يحرره من الجمود إلا تفاعل ضمني لا يهزهزه إلا التحسس النائم في الشعور، فيلملمه الي ما يشبه التقمص، ثم ينقله الي الممارسة التي تحييه فيه جيوب النفس، و يمتد به التمادي الي الاعصاب المستفيقة بفعل الارادة...



[ صفحه 225]



و مع الوقت الذي يطول، تصبح الممارسة في عمق الأصالة... و الإصالة في حالة الفعل، و الفعل في خضوع آخر، يتصرف به المنطق و يدخله الي حيثية التنفيذ الذي تعينه الأمة من حقيقة الواقع.

ذلك هو الفهم في طرحه الأول... و لن تهتز به الي حركة و فعل الا الممارسة المتمادية، كأنها المران الطويل، و لن يكون الفهم الذي تشاؤه الأمة فاعلا فيها فعله الأكمل، إن لم يشمل الأمة كلها، و هي كما وصفناها وصفها التام: كل ما تحتويه الأمة: من أرض، و خصب، و انتاج، و بشر... و من تاريخ، و زمان مضي، و زمان تتملي ء به مآتي الغد... و من تصاميم، و مناهج، و علوم، و جامعات، و عقول تولد الابتكارات التي تونع بها الانتاجات الذهنية المعبرة عن الحق، و العدل، و كل الاستقامات... و هي التي - وحدها - تبني المجتمع الأمثل الذي يشتاقه طموح الإنسان في فهمه الأكمل!!!

من توجه الي الأمة الوسيعة هذه، و راح يشرح لها هذا الفهم الموسع؟ لا معاوية ذهب حاملا سلال الفهم، و لا السفاح، و لا المنصور، و لا هارون هذا جاءها حاملا اليها شراع الفهم!!! أما الامام، فقد زج مناشير الفضائل، و العلم، و الغيظ المكظوم... و حمل الضيم، و القهر، و الصبر، و مشي يبشر الأمة بالفهم... و لكن صوته لم يبتعد الي أكثر من يثرب النائمة علي جلد و حصير!!! و لم يتمكن من الوصول الي بغداد إلا مبحوحا و مقهورا... وصل اليها ليعلمها كيف تلون السجون المعتمة، بالصلاة و السجود! و كيف ننام في القبر، الي أن يرفعنا القبر الي متون القناطر!

أجل - من حمل الي الأمة الوعي و الفهم؟ و أي منهج من المناهج، أو أية إرسالية من الإرساليات - أو أيه إدارة من الإدارات - أو أي هدف من الأهداف - راح يجوب الأقاليم، في طول البلاد و عرضها، حاملا إليها



[ صفحه 226]



الجامعات العلمية، و الفكرية، و الثقافية... و هو يشرح سبل الفهم، و سبل العلم، و سبل الحق، و سبل اليقظات الناطقة بكل الحقائق!!!

لم يحصل شي ء من هذا، شمل الأمة كلها المحدودة فوق مفاسحها المتباعدة الأطراف،... فكيف نطالب الأمة بفهم فاعل لم يصل اليها منه شي ء بعد... لم تكفنا يثرب، ننشي ء فيها جامعة، و ننشر فيها علما، و وعيا، و فهما... و لم تكفنا بغداد، نرفع فيها قصورا، و نعتم فيها سجونا تطفي ء فينا البصائر... و لو فرضنا - أن الفهم كله قد حصل، من سيف البحر حتي الطلول من فدك... و لكن الفهم - و إن يكن وسيعا وسيعا - يبقي في حيز مفرد، و لا يجديه نفعا غير الممارسات، و أقول الممارسات الطويلة و المستمرة... فهي التي تجلوه، و تحييه، و تصقله، و تتفاعل فيه الي ما لا يحد... أليس هذا هو الفهم الآتي من بحور العلم؟ ليبقي بلا موج، حتي تتناوله الممارسات، فيعلو الموج، و تتلاطم به الريح، و تتناقله العواصف دررا من ذريرات الزبد!!!

ألا فلنتغن بالممارسات، و بفعلها المحتك بالفهم الصامت، و لنستشهد:

- هل نفهم الصدق؟ ان لم نمارسه؟ -

و القراءة؟ فلنمارسها، حتي نعرف كيف نقرأ.

و الحب؟ فلنمارسه، حتي تغتبط منا المهج.

و المشاعر النبيلة؟ فلنغص فيها - بالممارسة - حتي تسمو بنا العواطف.

و المواطنة؟ فلنمارسها حتي نبني بها تكاتفنا في الحياة السعيدة و المجيدة.



[ صفحه 227]



و الحق؟ ألا يموت الحق ان لم نمارسه بلا انقطاع؟

و العدل؟ ألا يضيع العدل ان لم نتعشقه و نمارسه؟

و الطهر و العفاف؟ كيف يبقيان لعيالنا في الستر و الصيانة، و حقيقة الجمال؟ ان لم نمارسها في السر و في العلن.

و الإيمان بالله؟ كيف نبني به مجتمعياتنا الطاهرة؟ ان لم نمارسه بالصلوات، و المبرات، و الخشوع المطلق...

و الوطن الذي هو الأمة؟ كيف نعتبره إطارنا الخالد في الحياة، إن لم نمارسه بالصدق الكبير، و الفهم الكبير، و الإخلاص العميم؟

و الآن؟ ماذا يبقي لنا غير أن نمارسك - أنت - أيها الإمام...



[ صفحه 229]