بازگشت

الانتظار


لقد أخذ الإمام موسي عن سيرة الأمين محمد ما ركزه في حقيقة الانتظار - من هنا سنراه صبورا، و متحملا كل أذي رشقه به الحكام، و بصبر قل نظيره.

و لست أنت - أيها الإمام الكاظم - من رسم خطوط الانتظار، بل انه - بالتأكيد - جدك الأمين محمد، و بين يديه قافلة مرزومة بالطيب، كانت تشد رحلها الاشواق الغنية باللواعج، في تفتيشها عن كل ما يسمو بالنفس من مجال وضيع و رتيب، إلي فضاء فسيح و قشيب، فيه تنفسح المعاني و تعذوذب، و بها تزهو الأحلام و تستطيب.

و ما كانت أشواق الأمين محمد الا من هذا الصنف الذكي الذي استهوته الثرية خديجة، فأرخت عليه أثقال قافلتها المحملة بالمسك و العنبر، و بكل ما تنتجه الرمال اليابسة من بصيلات الحنظل.

و لكن الأمين محمد، ما كانت له غدوة إلي الشام تحمل الخفيف الخفيف من اريج العبير، إلا لتكون له - بالمقابل - أوبة تحمل الرائع الرائع من أشواق الضمير.

هنالك علي الخط محطة أولي كان يستريح فيها امين القافلة قبل الوصول إلي مفاسح الشام، و ما كان التوقف فيها للراحة و الاستجمام، اكثر



[ صفحه 26]



مما كان للاستعلام و الاستتمام. أما الراهب بحيرا، فكان كثير الترحيب برجل، ما كان يلقي السلام إلا بعد أن يأخذ السلام، و هكذا كانت عملية الترحيب المستجاب و المستجيب، سلاما يعانق سلاما مفتوحا علي رجاء، كما هو الفضاء علي سماء...

أما المحطة الثانية، فكانت تحصل في انحاء المدينة، و في أية زواية ظليلة يتخبأ فيها سجل مطل علي اخبار امة، بها فيها شوق، و أزهرت فيه حضارة...

دائما هو التاريخ - بكل احداثه الماضية، و بكل سجلاته الوافية - هو معرض كلام، و بحث، و اشواق ضمير، و لقد اولع كثيرا بالتاريخ الأمين محمد، المتعدد الرحلات علي ظهر القافلة، اما ولوعه بهذا المقدار، فلأن رحلات الاقدمين من اجداده الأبعدين، شديدة الشبه برحلاته هذه، من يثرب إلي الشام: يأتي بما تنتجه الرمول، و يعود بما تنتجه الحقول، و لكن انتاج الرمول - و ان يكن ثمينا، فهو الشحيح، بينما الحقول تدفق منها فيوض الثمر.

و رحلاته إلي الشام - و لو كانت تتكرر مرتين او ثلاثا كل عام - أين منها رحلات الجدود، في القصي القصي من ماضيات العصور: لقد حصلت موجات اثر موجات، مع السومريين الأوائل، ثم - من غير حصر و من غير ترقيم - مع الأكاديين، و الكلدانيين، و الامويين، و الاراميين، و الاشوريين، و الكنعانيين - الفينيقيين... من منهم ما ترك الجزيرة الام، بعد ان عبر الصحاري، و اكتشف حولها الأرض الممتدة الحقول، فأقام فيها، و تبنته كأنها الآم... و من ألف إلي الف إلي ألف من حلقات السنين، تحتم الوجود المبري من دفوق الشمس و ميازيب السحب، و انبرت حضارات عبقرية الصبح، و مشرقة الافق... و ها هي الابجديات، و رص المداميك، و نهوض



[ صفحه 27]



القلاع، و امتداد القصور، و انشداد الالواح في صدور السفن، تمشي بها الرياح في عرض البحر، تذلل الموج العتي فيه خفقة المجذاف... انها كلها انشداد فوق الأرض التي انجذبت اليها قوافل المهاجرين من رمول الجزيرة التي اصبحت تعرف كيف تستخرج الطيب الثمين العطر من الأكمام الحنظلية، و تخزنه في قوارير مختومة باصابع الفلين، لتعبي ء بها سيدة في يثرب - اسمها خديجة - قافلة لها أنيقة، سلمت قيادتها لأنيق آخر، ليس له اسم إلا الأمين محمد...

انه الآن ينزح من يثرب إلي الشام، و يؤوب و في جعبته احمال اخري، راح يفتق - في خلواته - أختامها، و ألغازها، و مراميها - و راح - أيضا - يشدد في استيعابها، ليجمع منها ما يرده إلي أرض امه الجزيرة، فتبهو بأبنائها النازلين فيها، كما بها من قبل اخوانهم و قد نزحوا عنها - موجة اثر موجة - في أموسهم الأولي، الي حيث تأقلموا و جمعوا من لحمتهم بالأرض، و الماء، و الهواء، مدنيات انسانية باهرة، سكبوا عليها من فضاءات السماء مواهب حافلة بالحب. و الكرم، و الآيات البينات... و لو لم تكن - هكذا - صادقة، لما أزهرت، و أثمرت، و أنجبت حضارات سبقوا بها منجزات الأرض بكل ما تجمع فوقها من مجتمعات.

و اختلي الأمين محمد في غار حراء - و كل افاويه الجمال تعبق في أنفاسه - يدرسها، و يحللها، و يفكر في نشرها علي كل الجزيرة التي هي امه اليوم، و امه غدا، و امه - بنوع خاص - مع اخوانه الذين نزحوا، حاملين معهم عطر الأرض التي تركوها، و ما دروا ان رموسهم بالذات لا تزال حتي الآن تتطيب بها...

و لقد هال الأمين محمد، و هو مختل في الغار - ان الأمة التي فاضت من صحاريها في القديم من الزمان، و امتدت إلي أفاريز الجوار، فضمها



[ صفحه 28]



الجوار بأبلغ مما يتشهاه الانضمام، و مما تتمناه جذوة النار، و هي ذاتها التي توصلت إلي انشاء حضارات توجتها الأبجدية بالفخار... فلماذا - هذه الأمة بالذات - تنكبت عن جادتها، و نست أنها كانت الأولي في حبكة الحرف، و في فتلة المغزال، و في برية الازميل في وجنة التمثال... و نست انها كانت الأولي في روعة المضمار... و انها كانت الأولي التي و حدت اقطارها في مجتمع واحد... فإذا هي امة متينة الجدار: مع الأراميين، و الاشوريين، و الكنعانيين الذين زينوا الصفحات بالحرف، و القلاع بالقناطر، و السفن بالمجذاف، و القصور بالمدماك الأنيق، و الإنسان بالجمال المهذب بالصدق و التقوي، و هما ظل الله في مضمر الإنسان...

اجل، لقد هال الأمين محمد، كون امته الممتدة من الجزيرة إلي كل ما حولها من جوار، قد انشأت حضارات أنيقات المدار... ثم يلفها البوار، و يفسخها المسار - فتنسي ذاتها، و تنسي ما كان لها من فخار!!!

و طال الاختلاء في الغار، و انحصر استنتاج المختلي: بأن كل رحي تدور علي ذاتها، تتفتت إذ ما يخرج بها - مدارها - عن نقطة المدار... و لو أن الله - سبحانه في تركيز مشيئاته - أراد تفتيت كرة الأرض - لأزاحها بوصة واحدة عن نقطة مدارها لتتحول - في نفخة الريح - هباء منثورا!!! و كذلك الأمة - امة الأمين محمد - لقد تمثلها تهجر صحاريها البدوية، لتتجمع في الحقول المؤهلة بحقيقة الانتاج - و لما طاب لها الانتاج، و زادته طيبا فوحات العبير، جمعها الصدق ذاته إلي خوان مطهر، فانشأت حضارة حسدتها عليها أمم الأرض.

و ها هي الأمة ذاتها، تجف و ريقاتها الخضراء، و تذبل ثمارها الحمراء، لأنها - من دون شك - قد منعت عن جذورها ماء سلسبيلا، و استبدلته بماء عكر... و معني السلسبيل: صفاء في الجهد، و تركيز في



[ صفحه 29]



الوعي، و وصول بالفهم إلي الحقيقة الناصعة التي يبتني بها مجتمع الإنسان، و هي - هذه الحقيقة بالذات - لا ينورها، و لا يزكيها، و لا يرونقها، إلا الطهر في المسلك، و الجدية في البناء، و الاستقامة في الأخلاق، و الصدق في الايمان... و كلها ركائز، تملكت فهمها - بعمق - تلك الأمة، فبنت ذاتها ببيكار أبجدي، ما سددته إلا التقوي المنورة بالله - مصدر الفضائل - و ليست تستفيم إلا بها مجتمعية الإنسان.

أما معني الماء العكر، فهو - بغير جدال - سلوك آخر، كأنه - من البطر - انحراف عن الجادة العفيفة التي تأبي أن تخالطها شعرة من دنس...

و لا شك ان البطر قد دق بالامة منقاره الكاذب، فتحول سلسبيلها الصافي إلي عكر عاهر... و ما أن سقت من جذورها، تي تهرأت تلك الجذور، ثم تلك الجذوع، ثم تلك الثمار، و لم يبق من المثال - مع الوقت الطويل - الا طيف من غبار!!!

ما من شك أن الأمين محمد - و هو المختلي الاختلاء الطويل أو الصادق، و البليغ في الغار - قد ألم بكل هذه التحاليل، يجد امام عينيه الغارقتين في لجج الهم - امته - و قد فاضت بها الغنائم. و دلت اليها المياسم، فإذا هي - فقط - لتتذكر الغنائم، و لتتغني بالمياسم!!! اما ان تعود إلي مبادرة الحق، و إعادة المياسم إلي حركية الانباض... فتلك - لعمر المجد - اطروحة لا ترتجف بها إلا عزيمة و مضاء، لا يجعلها تومض إلا المجد الآتي من مجتنيات العقل، و الروح، و مدات البصيرة.

و ما من شك -أيضا - أن الأمين محمد تدثر في الغار، بورق الغار، و راح يستنزل المجد من شقوق سقوف الغار، و هي الموصولة بميازيب السحب... سيكون له من المجد المهل من الأبعاد الرهيفة، ما يجدل به آيات بينات، بانتظار ان يزنر بها خصر كل انسان يمشي علي دروب الأمة...



[ صفحه 30]



و عندما تشتد الخصور بمتانة الزنانير، تعي الأمة انها ماشية علي الدرب الذي سيوصلها - خطوة خطوة - الي استعادة ما ضيعته خطواتها الاثيمة علي جوانب الطريق، فهوي مسيرها في غيهب لن ينجيها من دهاليزه إلا صواب آخر يردها - حتما - إلي ايمانها الخلوق، و به مشت بالأمس حضاراتها الوسيعة، و بالزيغان عنه فقدت قوتها العفيف، و جاعت إلي كل ما يسمي حقا و هدي!

و ما طالت خلوة الغار خمسا و عشرين حجة، إلا لأن الجهد المتين قد امتصها مصة مصة، و لما استوفي الجهد مضامينه، خرج من الغار، ليس فقط امينا - بل رسولا - و ما أن استوعبته شغاف الروح حتي صفقت له جوانحها، و آمنت به - نبيا - اما الأمة، فهي التي تململت تحت الدثار، و راحت يلملمها الانتظار، حتي تتم لها اليقظة، و يغشاها وعي يخطو بها إلي انتصار!



[ صفحه 31]