بازگشت

بنوطالب


و درس الإمام موسي - مليا - أسباب تعلق الرسول بعلي و رأي أن الصدق و رجاحة المواهب في علي هي التي أغدقت عليه حبا و تقديرا، ما خص الرسول - بهما - أحدا من الناس... و انكب الإمام موسي علي جده علي، ينهل من صدقه، و من معين فضائله، علي غير ارتواء!!!

بكل اقتناع أؤكد علي أن النبي العظيم محمد، ما استبدت به - مطلقا - أية عصبية ضيقة الذيل، خص بها أهليه و ذويه... فليكن له أن محض زوجه الأمينة خديجة، حبا مشبوكا باسلاك نجية، و هي - من دون ريب - تستحقها: فهي من أحب الناس إليه، و من أوفاهم صدقا و حدبا، و لأول مرة - إذ وقعت منها عين عليه - حسبته الطيف الوحيد المتجلي علهيا من خلف أغلفة الغمام، فاندغمت به كما يندغم النور بعدسة العين... و كانت، بعينه هو، لا بعينها هي، تري الكون - كله - بهجة نور.

و ليكن له - أيضا - أن محض ربيبه الفتي عليا، حبا، و عطفا، و تقديرا، ما استوفي منه مثلها أحد من الناس... لقد كان الفتي علي - في حدس النبي - من أبلغ الناس لبا، و عقلا، و فهما، و احساسا... و من أنبههم عينا، و غوصا، و صدقا، و ادراكا... لقد ربي في كنف البيت، و في كنف الرسالة المشرئبة من سقوف الغار، كانه ظل الشجرة: يخضر إذ تخضر. و يبرعم إذ تبرعم... اما إذا دقت بها منجل غدر - فهو الزند الوحيد الذي يقصف المنجل!!!



[ صفحه 34]



و بعد ثلاثمئة شهر، خرج النبي من الغار، و في عبه رسالة أطول من الف دهر... فما هي هذي الرسالة؟ و كيف هو مبناها؟ و ما هو معناها؟ و من هو المرسل لها؟ و إلي من هي المرسلة؟

لم يكن في البرج غير واحد يراقب تموجات الأثير كيف كانت تتحومل، و تتهافت نازلة من كوة مشغوفة في سقف الغار، و لم يكن أحد في الغار يتلقفها إلي وسيع جنانه، غير هذا المسمي محمد... انه المتأمل الوحيد الغارق في لجة ذاته:

[لقد كان المسافر الوحيد المتنقل، بقافلة خديجة، من يثرب إلي الشام، و من الشام إلي الوكر في يثرب... لقد وزع - وحده - الطيب في الشام، و حمل - وحده - الطيب الآخر الآتي به من الشام، لا ليوزعه - فقط - علي يثرب، بل علي كل الرمول اليابسة التي تعيش فيها الجزيرة العربية، و هي أم مكة، و أم يثرب، و ام الهجرات اليعربية الغارقة في خضم التاريخ، و لكنها الخارجة - أيضا - من الخضم المغبر، إلي تأسيس حضارات شهدت لها أبجدياتها الناصعة الطالعة من صدور بني كنعان، ثم طواها الزيغان، فانقلبت حطاما انساها انها كانت، و انها ضيعت كل ما كان].

جميع هذه التأملات كانت تتخايل في بال الأمين محمد، و هو في عب الغار، يسترجعها بالدرس و التحليل، ليستخرج منها كل بند من بنود الرسالة...

أما الفتي الصامد في برج المراقبة... فمن يكون غير علي، في تعلقه المتلازم بابن عمه النبي؟ و لا النبي - بالذات - كان يطيق ابتعادا عن علي، و لقد اعتبره طاقة منه، مشقوقة عنه، و لابد من أن تجمعه إليه حقيقة التلازم.



[ صفحه 35]



و كان التلازم في مدرجه الحاصل باشتراك الفتي بخلوات الغار: مشاهدة و إصغاء لكل خفيف كانت تعتز به جنبات الغار - و هكذا كان للفتي - وحده - ان يري، و ان يسمع، و ان يدرك مبني الرسالة، و معني الرسالة، و من هو المرسل، و من هي - بالتالي - المرسلة اليها...

و لم تكن الرسالة في صفحة أو صفحتين، لتقرأ بدقيقة أو بدقيقتين... فليكن لنا أن نفهم أنها من الغار أوسع من الغار، فهي من الفوق... كانها الالهام، و لكن الالهام لا يريدها أن تكون كالهيولي - مجرد وهم، و مجرد خيال، بل حقيقة تجسيد للفكر في كيان من تراب - يبقي ترابا إن لم تخفق فيه نجاوي الروح فتجعله انسانا، تحيا به امة يخلد بها الله الذي هو القيمة المزروعة في مهجة الإنسان.

تلك هي الرسالة التي استنزلها التأمل من مصدر الالهام، و سورها بدستور قرآني يقي انسانية الإنسان من أي زوغان - و اراد ان يبلغها - هذي الرسالة - لبني قومه، حتي بها يتيمموا و يتمكنوا من تهذيب شامل واحد، يلمهم إلي خوان - من الصدق - واحد... و هكذا - دون أن يدروا - و مع طول الوقت، و مع طول المران، سيتوصلون إلي تحقيق امة تستعيد اليها مجدا حادقا، كان لها أن تمتعت به في سالف الزمان!

لقد كان يعرف الفتي علي، أن كل هذا هو جوهر الرسالة، و هو من مضمون الرسالة، و من معني الرسالة، و أن الرسالة بالذات ليست موجهة - بالتخصيص - إلا إلي الأمة - امة النبي العظيم و هي المشلولة اليوم، و لكنها الناهضة - غدا - من كبواتها، لتكون - يوما بعد يوم - في خطها الصاعد إلي تحقيق الطموح الذي حوشته لها خطوات الثلاثمئة شهر في جوف الغار!

نعود إلي النبي العظيم خارجا من غار، مفتشا عمن يسانده في إتمام



[ صفحه 36]



المسار... و المسار طويل، يتطلب طول المجال، و صدق المجال، و لن تحظي الأمة بأي منال، إن لم تتركز - منذ الخطوة الأولي - علي عزم أكيد، و صبر مديد، و جلد في الانتظار، و لن يكون المنال بعد أن يقرأ القرآن آية آية، كأنه حكاية، بل بعد أن يصغي إليه ينثر، ثم يشعر به ينقش، لا في الآذان، بل في الأذهان، ثم يستمر به التبيان، من فرد إلي فرد، حتي تعم الأمة كلها حقيقة الفهم، و روعات البيان.

أما النبي الكريم المولع بامته و لوعا لا حدود له، فانه لم يجد في المضمار إلا عليا - وحده - يلبي النار بجذوة النار؛ فهفا عليه كانه السيف ملقوطا بغمده، لا لأنه طالبي تتنفس فيه رغوة الدم، بل لأنه الندرة الهابطة من شهوة الحق. و ليست إلا له قيمومة علي رسالة تحيي امة، و امة تخلد رسالة... ألا فليكن علي أول إمام، معصوم عن خطأ، و ليتسلم زمام الرسالة المختصة بالأمة، من جيل إلي جيل، حتي و لو دخلت المسافة إلي ألف سنة... و ليكن من صلبه - لهذه المسافة - طوق إمامي يبلغ الاثني عشر. من أجل أن تبقي مسافة متواصلة الربط و الشد - لأن المجال الطويل يمتن المران، و يوسع آفاق الهداية، - و الأمة - و قد ضاق منها المران، و ضاقت عليها آفاق الهداية، انما هي اليوم باشد الحاجة إلي ما يردها إلي ضبط الزمام!

اما الطالبية - أردف النبي الجليل يفسر - و ان تكن شعاري في اعتزازي بدوحات الجدود، غير اني أحسبها حجرا من حجارات المداميك المشدودة بها قلعة الأمة، و لن يكون هذا الحجر متينا إلا بمتانة كل الحجارات المتكاملة بها رصفة الأمة... و هكذا كان اهتمام النبي بتشديد أزر علي في تولي الزمام، لا تعزيزا لبني طالب، و انتقاصا من بني خزاعة، أو بني امية، أو بني سليم و مخزوم... بل تشديا للأواصر - كل الأواصر - و لم يكن التخصيص



[ صفحه 37]



برجل معين، إلا لأنه الرجل الموهوب و هو - وحده - الآن يتمكن من ضبط الأواصر، و نقل الرسالة بجميع ابعادها الطالعة من سرية الغار، إلي الأمة الغافية، و التي - بنوع خاص - لابد من أن تكون علي مثل هذا الانتظار!

و بعد جولات و جولات في ساحات الصراع و الاصطراع،... آمنت الجزيره حتي في لا وعيها المزعج - بالنبي الحامل اليها كتابا... لقد بهرت به، لأنه ضخم - كما يبدو - و ان لم تعرف كيف تقرأه!!! و لكنها صدقته. لأنه شعرت بأن في عزم حامله صدقا - و شوقا - و جهدا مبلولا بدم.



[ صفحه 39]