المقدمة
لقد حفل عصر الامامين الصادق و الكاظم عليهماالسلام بكثير من الأزمات السياسية و الأحداث الجسيمة، لاسيما الثورات المتسمة بالعنف و سفك الدماء، و أبرز تلك الثورات: ثورة زيد بن علي، و الثورة الهاشمية التي أطاحت بالحكم الاموي، فقد اندفعت الشعوب الاسلامية بحماس بالغ الي الثورة العارمة ضد الحكم الاموي البغيض الذي جهد علي اذلال الامة الاسلامية و حرمانها من أبسط حقوقها الشرعية، و مقومات حياتها الانسانية، تحت شعار «الرضا من آل محمد»، و قد استجابت له الشعوب كافة من كل حدب و صوب، و تعطشت القلوب للثأر لكرامتها، و التخلص من ظلم وجود الامويين، باعتقادهم أن آل محمد صلي الله عليه و آله هم الركيزة الاولي لنيل الأهداف السامية التي ينشدها المجتمع الاسلامي لتطبيق العدالة الاجتماعية و اشاعة الحرية و المساواة.
و ما كان يظن أحد أن الثورة تحمل بين طياتها الدعوة لبني العباس، فان هذه الاسرة كانت خاملة الذكر، و لم يكن لها أي رصيد شعبي، أو عمل جدي يخدم الاسلام و المسلمين.
و علي أي حال، فقد انحرفت الثورة عن مسارها المخطط الذي رسم لها
[ صفحه 8]
في الأبواء، حين مبايعة محمد بن عبدالله بن الحسن ذي النفس الزكية بالخلافة، و قد اتجهت الي حمل بني العباس الي سدة الحكم بقيادة أبي مسلم الخراساني باتفاق سري مسبق «أمر دبر بليل»، و الذي ثبت ركائز الحكم العباسي جيوش خراسان و زحفها علي بغداد و دمشق.
و لم يثبت الحكم العباسي الا علي بحور من الدماء، و جبال من جثث الضحايا بما فيهم الأبرياء و العجزة و المرضي و الشيوخ و الأطفال.
كما أن الاجراءات التعسفية القاسية التي مارسها المنصور العباسي و سنها، خاصة ضد أبناء عمه العلويين، تركت أعمق الأثر و أمضه في نفسي الامامين الصادق و الكاظم عليهماالسلام خاصة بعد ما نكل المنصور بأبناء عمه الحسنيين أفظع التنكيل و أشده، و من خلفيات هذه الهجمة الشرسة و نتائجها، و امتدادا لظلم السلف المتعسف وقعت المذبحة الرهيبة التي راح ضحيتها المئات من العلويين في واقعة «فخ» قرب مكة. و كان في مقدمة الشهداء قائدهم الثائر الحسين بن علي ابن الحسن في عهد موسي الهادي.
ان حياة الامام موسي بن جعفر عليه السلام بجميع أبعادها تتميز بالصلابة في الحق، و الصمود أمام الأحداث الرهيبة باسلوبها السلبي، و بالسلوك النير الواضح الذي لم يؤثر فيه أي انحراف أو التواء أو اغراء أو ارهاب، و انما كان متسما بالتوازن، و منسجما مع سيرة الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و هديه، و التزامه بحرفية الاسلام.
و كان من بين تلك المظاهر الفذة التي تميزت بها شخصيته عليه السلام هو الصبر علي الأحداث الجسام، و تحمل المحن الشاقة التي لاقاها من طغاة عصره و حكام زمانه، فقد أمعنوا في اضطهاده و التنكيل به، و قد حاول الحكام العباسيون، لاسيما المهدي منهم و الرشيد علي قتل الامام و اغتياله عدة مرات و بأساليب مختلفة،
[ صفحه 9]
فعمد أخيرا هارون الرشيد الي اعتقاله و زجه في ظلمات المطامير و زوايا السجون بعدما أشخصه من مدينة جده الي العراق، و حبسه في البصيرة ثم في بغداد سنين متمادية يعاني فيها الحرمان و الاضطهاد و التعسف و الآلام و يتجرع الغصص و الخطوب، و لم يؤثر عنه أنه أبدي أي تذمر أو شكوي، أو جزع مما ألم به، و انما كان العكس من ذلك، تراه يبدي شكره لخالقه، الذي طالما دعاه أن يفرغه لعبادته، و انقطاعه لطاعته.
و اذا استعرضنا جانبا من حياة امامنا المفدي عليه السلام فاننا نجد أنفسنا أمام تراث زاخر ضخم، و نفس مشرق يفيض بالخير و الجمال، يحمل العطاء السخي، و التوجيه الصائب للامة.
كما قام امامنا الفذ عليه السلام بادارة شؤون الجامعة العلمية بعد أبيه الامام الصادق عليه السلام التي أسسها بعد أبيه، و التي تعتبر أول مؤسسة ثقافية في الاسلام، و أول معهد تخرجت عليه كوكبة من فطاحل العلماء، منهم أصحابه و الرواة عنه و تلاميذه، و منهم أئمة المذاهب الاسلامية، و امتد اشعاعها الي العصور الصاعدة، و هي تحمل روح الاسلام و هديه.
أما عبادته و تهجده فقد أجمع المؤرخون و المترجمون له أنه كان من أعظم الناس طاعة، و أكثرهم عبادة لله تعالي، فكانت له ثفنات كثفنات البعير في مواقع سجوده من كثرة السجود، كما كانت لجده الامام السجاد زين العابدين عليه السلام من قبل، حتي لقب بذي الثفنات، و قد بهر أعداءه قبل مواليه، و بهر العقول بكثرة علمه، و صبره و عبادته و تهجده حينما كان في السجن، فكان يصوم نهاره، و يقول ليله ساهرا في محراب عبادته لله.
و قد أدلي هارون الرشيد عندما شاهده في سجن الفضل بن الربيع بحديث
[ صفحه 10]
عن عبادته و تهجده، و عن مدي تجرده عن الدنيا، و اقباله علي الله قائلا: «لا شك انه من رهبان بني هاشم»!!
و لما انتقل الامام عليه السلام الي سجن السندي بن شاهك بأمر هارون، و تعرفت عليه اخت السندي تأثرت به فاعتنقت فكره و مذهبه، و كان من آثار ذلك أن أصبح كشاجم حفيد السندي من أعلام الشيعة في عصره.
فسيرته كانت تمتلك القلوب و المشاعر، و هي مفعمة بسمو المعاني، و مشحونة بالنبل و الزهد في الدنيا، و الاقبال علي الله سبحانه و تعالي.
و في ذلك السجن الرهيب و بيد السندي لعنه الله سقي السم الناقع الذي أودي بحياته و استشهاده، في حالة عبادته و تهجده.
و من مظاهر شخصيته الكريمة، السخاء و الجود، فقد كان من أندي الناس كفا، و أكثرهم عطاء للمعوزين، و كانت صراره يضرب بها المثل، فكان الناس يقولون: «عجبا لمن جاءته صرار موسي و هو يشتكي الفقر»!! و كان يصل الفقراء و المحرومين في غلس الليل البهيم لئلا يعرفه أحد، و قد أنفق جميع ما يملك بسخاء و طيبة نفس علي الضعفاء و المنكوبين، و أنقذ الكثيرين من محنة الفقر و مرارة الحرمان.
و من تلك المشاكل التي حفل بها عصر الامامين الصادق و الكاظم عليهماالسلام الحركات الفكرية الهدامة كالزندقة و الغلو و غيرها، فقد كانت تستهدف القضاء علي الاسلام، و تقويض دعائمه، و قد امتدت هذه الظاهرة الي كثير من الأقطار الاسلامية.
فقد تصدي لها الامام عليه السلام بكل امكاناته، كما تصدي أبوه الصادق عليه السلام من قبل، و أبرز علمه و حججه في مناظراته مع حملة أفكار الغلو و الالحاد
[ صفحه 11]
و غيرهما من الأفكار الهدامة الاخري التي داهمت العالم الاسلامي في ذلك العصر، فدعت الي تفكيك عري المسلمين و روابطهم الاجتماعية، و تضليل الرأي العام في كثير من جوانبه الاجتماعية و العقائدية، و قد بادر الامام الكاظم و أبوه الامام الصادق عليهماالسلام من قبل الي ايقاظ المسلمين و تحذيرهم منها.
و ليس في ميادين الخدمة الدينية و الاجتماعية ما هو أعم نفعا و أكثر عائدة علي المسلمين من نشر فضائل أهل البيت عليهم السلام و عرض سيرتهم و شؤون حياتهم، فانها تمد المجتمع بما يحتاجه من مقومات النهوض الانساني و الارتقاء العلمي، و ما أحوجنا في هذا العصر الي التمسك بالقيم الفاضلة و منهاج أهل البيت السليم، الذي هو امتداد لمنهج السماء الهادف الي العبودية و نكران الذات و التضحية في سبيل رفع كلمة الله سبحانه و تعالي في الأرض، و الانطلاق نحو العمل المثمر البناء.
و أما سياسته عليه السلام مع حكام زمانه، فكانت المقاطعة و السلبية تمثلان منهاجه القويم، لعلمه بأن المقاومة الايجابية لا تجدي نفعا في التغلب علي الحكم القائم و حتمية فشل الثورة، كما قام بها أولاد عمه الحسنيين، و باعلانه السلبية حرم عليه السلام أي تعامل مع الحكم القائم، و الاتصال بالجهاز الحاكم، حتي حرم علي أصحابه أن يبري قلم لأحدهم، و حرم الترافع الي مجالس قضائهم، حسبما دونه فقهاء الامامية في كتب القضاء، و هي طريقة مجدية ذات أثر بالغ في تحقيق الأهداف السليمة التي ينشدها أئمة أهل البيت عليهم السلام و التي مارسها الامام موسي الكاظم و من قبله أبيه الامام الصادق عليهماالسلام، و ما حديثه مع صفوان الجمال و تحريم اكراء جماله لهارون الرشيد حتي لحج بيت الله الحرام الا أدل شاهد علي ذلك، و سنذكر ذلك بالتفصيل في فصول هذا الكتاب.
هذه كلمة عابرة قدمتها مفتتحا بها كتاب الامام الفذ السابع من أئمة
[ صفحه 12]
أهل البيت عليهم السلام، (الكاظم موسي) عليه و علي آبائه و أبنائه أفضل التحية و السلام، آملا منه سبحانه و تعالي التفضل بالقبول، و أن يجعله ذخرا لنا في يوم عز فيه الشافع و عدم الناصر الا رحمة الله سبحانه و تعالي، و شفاعة رسوله و أهل بيته الطاهرين.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
و الصلاة و السلام علي رسوله و أهل بيته الطاهرين.
حسين الشاكري
دار الهجرة - قم المشرفة
الفاتح من شهر الصيام عام 1417 ه
[ صفحه 13]