بازگشت

مع المنصور


لقد دامت فترة تولي الامام الكاظم عليه السلام الامامة في عهد المنصور نحو عشر سنوات، شاهد قبلها موقف المنصور مع أبيه الصادق عليه السلام الذي اتخذ من النظام الحاكم موقفا سلبيا، و رغم ذلك فقد تعرض مرارا لتحديات المنصور و تهديده له بالقتل تارة و بالحبس اخري، و كان يحصي عليه أنفاسه و يراقبه من خلال عيونه و جواسيسه، حتي اضطر الصادق عليه السلام الي التستر بالنص علي الامام بعده الا الي خلص أصحابه، و أوصاهم بالحذر و الكتمان من جواسيس المنصور و زبانيته، بل



[ صفحه 347]



و أوصي الامام عليه السلام من بعده الي خمسة أشخاص - و قيل الي ثلاثة أشخاص - حذرا علي الامام الذي بعده و علي شيعته.

و شاهد الامام الكاظم عليه السلام أيضا بني عمه من الحسنيين و ما حل بهم من الرزايا و النكبات ظلما و عدوانا و قتلا و تشريدا، هكذا استقبل الامام الكاظم عليه السلام امامته في عهد المنصور العباسي، فانطوت نفسه الزكية علي الحزن العميق و الأسي المرير، و تجرع مرارة تلك الأحداث القاسية محتسبا كاظما للغيظ.

لقد كان الامام عليه السلام يقدر حراجة الموقف الذي مر به و هو في مقتبل امامته، فكان عليه السلام حريصا علي التزام جانب الحذر و الكتمان الا من خاصته و خلص أصحابه، و لم يشترك في الميادين السياسية و لم ينضم الي الثوار من العلويين لعلمه بفشل حركتهم و عدم نجاحها، و كان عليه السلام يتقي شر العباسيين و لا يسمح لشيعته و مريديه من الاتصال به بشكل اعتيادي، حتي ان الرواة من خلص أصحابه كانوا يكنون عنه بالعبد الصالح، و العالم، و السيد، و الرجل، و أبي ابراهيم، و غيرها حذرا و توقيا من فتك السلطة.

و رغم أن الامام عليه السلام قد اتخذ كافة الاحتياطات الكفيلة بأن تقيه و أصحابه من شر الحكام الظلمة من القتل و الحبس و التشريد في زمان المنصور، الا أن عيون المنصور كانت تراقبه بدقة و تحصي عليه و علي أصحابه أنفاسهم، ففي حديث هشام ابن سالم الذي تحير في الاهتداء الي الامام بعد الصادق عليه السلام، فلما دل عليه قال: قلت: جعلت فداك، ان أخاك عبدالله يزعم أنه الامام من بعد أبيه؟ فقال: عبدالله يريد أن لا يعبد الله. قال: قلت: جعلت فداك؟ فمن لنا من بعده؟ فقال: ان شاء الله أن يهديك هداك. قلت: جعلت فداك، فأنت هو؟ قال: لا أقول ذلك. قال: فقلت في نفسي: اني لم أعرف طريق المسألة، ثم قلت له: جعلت فداك، أعليك امام؟ قال: لا.



[ صفحه 348]



قال: فدخلني شي ء لا يعلمه الا الله تعالي اعظاما له و هيبة، ثم قلت له: جعلت فداك، أسألك عما كنت أسأل أباك؟ قال: سل تخبر و لا تذع، فان أذعت فهو الذبح [1] ، الحديث.

و هكذا فان انقطاع الامام و اعتصامه في بيته و مزاولته أعماله الخاصة و اعتزاله الناس الا خواص أصحابه جعل المنصور لا يراه خطرا علي عرشه، فكف عنه الأذي و المكروه، سيما و ان بعض الشيعة كانوا قد التفوا حول أخيه عبدالله الأفطح، و بعضهم قد رجع الي القول بامامة أخيه اسماعيل المتوفي في حياة أبيه عليه السلام، و قد بدت نتائج احتياطات الامام عليه السلام واضحة خلال حكم المنصور، الذي سام العلويين أشد أنواع النكال و التعذيب و الجور و السجن و القتل، و رغم ذلك فانه لم يتعرض للامام الي الاستدعاء الي بغداد مثلا كما كان يستدعي أباه عليه السلام و يتهدده بالقتل، و لا تعرض عليه السلام للحبس من قبله كما تعرض له في أيام المهدي و الرشيد بعد أن اشتهر أمره و ذاع صيته و توسعت قاعدته و التف حوله جماهير الشيعة و رجع اليه من شذ منهم الي غيره.

و لو لا تلك التدابير التي اتخذها الامام و أبوه عليه السلام لكان مصيره القتل علي يد المنصور الجائر، و يتضح ذلك من خلال رسالة المنصور الي و اليه علي المدينة محمد ابن سليمان حين أخبره بوفاة الصادق عليه السلام و التي يقول فيها: ان كان أوصي الي رجل بعينه فقدمه و اضرب عنقه، و عاد الجواب: قد أوصي الي خمسة أحدهم أبوجعفر المنصور، و محمد بن سليمان، و عبدالله و موسي و حميدة. فقال المنصور: ما الي قتل هؤلاء سبيل [2] .



[ صفحه 349]



و لعل هذه الوصية هي التي ساهمت أيضا الي حد ما في بقاء الامام الكاظم عليه السلام بعيدا عن مخالب المنصور العباسي و لو الي حين.

أخباره عليه السلام مع المنصور:

1 - روي ابن شهر آشوب أنه حكي أن المنصور تقدم الي موسي بن جعفر عليه السلام بالجلوس للتهنئة في يوم النيروز، و قبض ما يحمل اليه، فقال عليه السلام: اني قد فتشت الأخبار عن جدي رسول الله صلي الله عليه و آله فلم أجد لهذا العيد خبرا، و انه سنة للفرس و محاها الاسلام، و معاذ الله أن نحيي ما محاه الاسلام.

فقال المنصور: انما نفعل هذا سياسة للجند، فسألتك بالله العظيم الا جلست، فجلس و دخلت عليه الملوك و الامراء و الأجناد يهنونه، و يحملون اليه الهدايا و التحف، و علي رأسه خادم المنصور يحصي ما يحمل.

فدخل في آخر الناس رجل شيخ كبير السن، فقال له: يابن بنت رسول الله، انني رجل صعلوك [3] لا مال لي، اتحفك بثلاث أبيات قالها جدي في جدك الحسين ابن علي عليه السلام:



عجبت لمصقول علاك فرنده [4] .

يوم الهياج و قد علاك غبار



و لأسهم نفذتك دون حرائر

يدعون جدك و الدموع غزار



ألا تقضقضت [5] السهام و عاقها

عن جسمك الاجلال و الاكبار!



قال عليه السلام: قبلت هديتك، اجلس بارك الله فيك، و رفع رأسه الي الخادم،



[ صفحه 350]



و قال: امض الي أميرالمؤمنين و عرفه بهذا المال و ما يصنع به، فمضي الخادم و عاد و هو يقول: كلها هبة مني له يفعل به ما أراد. فقال موسي عليه السلام للشيخ: اقبض جميع هذا المال فهو هبة مني لك [6] .

و لا يعرف بالضبط أين طلب المنصور منه ذلك، هل في المدينة أم في بغداد، اذ لم تصرح الرواية بذلك، و مهما يكن الأمر فانه يستبعد أن يكون ذلك في بغداد؛ لأنه عليه السلام لم يستدع من قبل السلطة الي بغداد في زمان المنصور كما ذكر المؤرخون.

2 - و قد توقع الامام عليه السلام موت المنصور في نفس العام الذي توفي فيه، كما ذكرنا ذلك في معجزاته عليه السلام، و نزيد هنا رواية الطبري بالاسناد عن عمر ابن زيد، قال: سمعت أباالحسن يقول: لا يشهد أبوجعفر [المنصور] بالناس موسما بعد السنة، و كان حج في تلك السنة، فذهب عمر فخبر أنه يموت في تلك السنة [7] .

و قد حج المنصور في خلافته مرتين، و في الثالثة اصيب باسهال شديد، فهلك قبل أن يصل مكة في بئر ميمون، و ذلك سنة 158 ه، لست خلون من ذي الحجة [8] ، و انطوت بموته صفحة حافلة بالظلم و الجور و الاثم و الموبقات.



[ صفحه 351]




پاورقي

[1] كشف الغمة 1: 13.

[2] المناقب 4: 320.

[3] الصعلوك: الفقير.

[4] الفرند: السيف، و ما يلمح في صفحته من أثر تموج الضوء.

[5] أي تفرقت.

[6] المناقب 4: 318.

[7] دلائل الامامة: 158.

[8] انظر تأريخ بغداد 1: 61 - 53. سير أعلام النبلاء 7: 83. الجوهر الثمين 1: 118 - 116. مآثر الانافة 1: 175.