بازگشت

الكاظمية - لمحة تاريخية


في عام 145 ه ابتدأ المنصور العباسي بتأسيس المدينة المدورة بغداد، و استتم البناء في رواية الخطيب البغدادي في سنة 146 ه، ثم أتم بناء سور المدينة، و فرغ من خندقها و سائر شؤونها في سنة 149 ه.

و لما أنهي المنصور عمارة مدينته اقتطع الشونيزي الصغير، المجاورة لمدينته من جهة الشمال فجعلها مقبرة، و لعله اعتبرها خاصة بعائلته و اسرته فسماها (مقابر قريش)، و ربما اختار لفظ قريش ليشير الي مشاركة فيها، و قد تسمي أيضا (مقابر بني هاشم). و يروي الشيخ المفيد أنها كانت مقبرة لبني هاشم و الأشراف من الناس.

و مع مرور الأيام درس اسمها (الشونيزي الصغير) و اشتهرت باسمها الجديد (مقابر قريش)، و كان أول من دفن في هذه المقابر جعفر الأكبر بن أبي جعفر المنصور، و ذلك في سنة 150 ه، ثم توالي الدفن فيها بعد ذلك.

و في عام 183 ه لخمس بقين من رجب استشهد الامام موسي بن جعفر عليه السلام، و كان قد دس اليه السم من قبل السندي بن شاهك بأمر من هارون الرشيد، فقضي



[ صفحه 454]



عليه، و حمل جثمانه الطاهر الي مقابر قريش فدفن هناك حيث قبره الشريف الآن.

و ذهب بعض المؤرخين الي أنه دفن في موضع كان قد ابتاعه لنفسه في مقابر قريش، فان صحت هذه الرواية فانها تدل علي مقدار ما حظيت به هذه الأرض من الأهمية خلال مدة قصيرة لا تتجاوز ثلاثة عقود من السنين.

و اشتهر مدفن الامام بعد ذلك باسم (مشهد باب التبن) نسبة الي باب التبن الذي كان في شرقيه مما يقرب من دجلة، كما أن المسجد المجاور لقبر الامام عليه السلام كان يسمي (مسجد باب التبن) أيضا.

و في عام 220 ه في آخر ذي القعدة، أو لخمس أو لست خلون من ذي الحجة توفي ببغداد الامام أبوجعفر محمد الجواد بن علي الرضا بن موسي بن جعفر عليهم السلام، و دفن في تربة جده أبي ابراهيم موسي بن جعفر عليه السلام.

و أصبح السكن حول مقابر قريش - بعد دفن الامامين فيها - في ازدياد و اتساع علي مرور الأيام، حيث دفعت العقيدة الدينية بعض الناس الي السكن حول المشهد لحمايته و ادارته و ايواء زائريه، و كان هذا التجمع حول المشهد هو النواة الاولي لمدينة الكاظمية، هذا فضلا عن الموقع الجغرافي لمقابر قريش من حيث قربها من دجلة وجودة تربتها، و مجاورتها للقري و الأرياف و المزارع و الأشجار الوارفة الظلال.

و يستفاد من مجموع النصوص التأريخية المتعلقة بالعصر العباسي الأول أن هذه المنطقة المغمورة قد قفزت قفزات واسعة الي الامام، فأصبحت جزءا متصلا ببغداد، بل محلة من محلاتها، و صارت تحدد يومذاك بكونها بين الحربية و مقبرة ابن حنبل و الحريم الطاهري، و بذلك أصبحت منطقة عامره بالسكان زاخرة بالعمران شأنها في ذلك شأن سائر المحلات البغدادية الشرقية و الغربية.



[ صفحه 455]



و في عام 334 سيطر معز الدولة البويهي علي أزمة الحكم في بغداد، و كان من جملة أعماله خلال أيام ملكه، تشييد المرقد الكاظمي تشييدا رائعا في عمارته، و انزال جماعة من الجنود الديالمة لغرض الخدمة و الحفاظ علي الأمن، و كان من جملة آثار استتباب الأمن في العهد البويهي و التصاق مقابر قريش ببغداد، ذهاب الناس في أعداد غفيرة اليها في الجمعات و المواسم و المناسبات الدينية، كذكري مقتل الامام الحسين عليه السلام و عيد الغدير و ما شابه ذلك من المناسبات.

و قد تعرضت المدينة خلال فترات تأريخية متعاقبة الي الغرق و الفيضان سيما في سنة 367 ه و سنة 466 ه و سنة 554 ه و سنة 569 ه، ثم سنة 614 ه و سنة 646 ه و سنة 654 ه، و لما حدث فيضان سنة 614 ه أثر في المشهد و مدينته أثرا بالغا، و قام الناصر لدين الله بتعمير ما خربه الماء، كما شيد سورا جديدا للمشهد، و ذلك سنة 614 ه.

و انطوي العصر العباسي و بلدة المشهد الكاظمي محلة عامرة مفردة، فيها خلق كثير، و ذات سور، و تضم سائر مقتضيات المدن و مرافقها من دور و سكان و عمارة، و نقيب يشرف علي شؤون المشهد و البلدة غير نقيب العلويين أو الطالبيين.

و في الشهر الأول من عام 656 ه حاصر الجيش المغولي بغداد، و تم احتلالها يوم الاثنين الثامن عشر من المحرم أو بعد ذلك بأيام، و وافق هذا الاحتلال عدد من حوادث التخريب و التلف و ضروب من المصائب و النكبات.

و علي الرغم من خروج بلدة المشهد الكاظمي عن خط زحف الجيش المحتل، و عدم وجود أية قوة عسكرية عباسية فيها، فقد أصيبت بشي ء من ذلك الخراب العام، كما اصيب المشهد نفسه بالحريق، و سارع الوزير ابن العلقمي الي الأمر باصلاح ما تلف و تجديد ما اندثر من البلدة، كما قام صدر الوقوف شهاب الدين



[ صفحه 456]



علي بن عبدالله بعمارة ما أتلفه الحريق في المشهد المطهر.

و ما أن أطل القرن الثامن حتي كانت المدينة قد سارت أشواطا في طريق تقدمها، عاجة بسكانها، صاخبة بزوارها و القادمين اليها.

و يصفها حمدالله المستوفي في أوائل القرن الثامن فيقول: انها مدينة صغيرة، يبلغ طول محيطها حوالي ستة آلاف خطوة، و ان سكانها ستة آلاف نسمة.

و في أوائل القرن العاشر دخلت الكاظمية عهدها الجديد، من حيث الاستقلال الاداري الداخلي، و أصبحت مدينة لها كيانها و دورها في الشؤون العامة، ففي سنة 914 ه سيطر الصفويون علي العراق، و زار الشاه اسماعيل الصفوي الكاظمية، و أمر بتشكيل ادارة خاصة بالبلدة و محكمة شرعية يرأسها قاض يحمل لقب «شيخ الاسلام» و أمر بتشييد المشهد الكاظمي تشييدا رائعا فخما، و عين الرواتب لخدام المشهد و المسؤولين عنه.

و عندما زال الاحتلال الصفوي و تم للسلطان سليمان القانوني احتلال العراق سنة 941 ه لم يتغير وضع الكاظمية السابق، و لما زارها السلطان العثماني أمر باكمال بعض ما لم يتم من عمارة المشهد، و أقر رواتب سدنة المشهد و العاملين فيه.

و حفلت القرون الأربعة الأخيرة - أي منذ الاحتلال الصفوي الي نهاية الاحتلال العثماني - بما لا يمكن وصفه من مآسي الأوبئة و الطواعين و الغرق، و كانت من العنف و الشدة و التتابع بشكل حد من تطور الكاظمية، بل و تطور العراق كله الي أبعد الحدود، و لكن المدينة حافظت علي كيانها الخاص خلال العهد الصفوي الأول، فالعهد العثماني التركي الأول، فالعهد الصفوي الايراني الثاني، ثم العهد العثماني التركي الثاني و الأخير. و لما تولي مدحت باشا حكم العراق، جعل الكاظمية قضاء يديره (قائممقام) بعد أن أضاف الي حدود الكاظمية الادارية بعض



[ صفحه 457]



الأراضي و المقاطعات المجاورة، و مد سكك الحديد من الكرخ الي الكاظمية، و أمر بتأسيس شركة الترامواي لتسهيل حركة النقل بين الكاظمية و بغداد، و كانت عربات الترامواي تجرها الخيول.

و في نحو سنة 1302 ه أمر المشير هدايت باشا قائد الفيلق العسكري التركي السادس في بغداد بعمل جسر من الخشب عائم علي نهر دجلة، يربط بين الكاظمية و الأعظمية، و بذلك ارتبطت الكاظمية بالجانب الشرقي من بغداد أيضا.

و في يوم السبت 24 رجب سنة 1318 ه تم وضع حجر الأساس لبناء سراي الكاظمية، و قد أنجبت بلدة الكاظمية خلال عمرها الطويل عددا كبيرا جدا من الفقهاء و الادباء و الشعراء و المفكرين و الأطباء.

و ضمت المدينة بين جوانحها مجموعة من المدارس الدينية التي تعني بتدريس العلوم الاسلامية، و كانت عامرة زاهرة بطلابها و أساتذتها، و في طليعتها مدرسة الفقيه السيد محسن الأعرجي المؤسسة في أوائل القرن الثالث عشر الهجري، و ضمت المدينة أيضا مجموعة من المكتبات الضخمة الحافلة بنفائس المخطوطات و امهات الكتب.

و قيل: ان أول مطبعة عراقية حجرية كانت في الكاظمية سنة 1237 ه، و ذلك يعد في صدر قائمة النشاط العلمي لهذه المدينة في النصف الأول من القرن الثالث عشر.

و من أبرز المواقف السياسية لمدينة الكاظمية موقفها خلال الحرب العالمية الاولي، من الاحتلال البريطاني للعراق، فقد استنجد وجوه البصرة في 20 ذي الحجة سنة 1332 ه بعلماء الكاظمية، فأصدر العلماء أمرا بوجوب الدفاع المقدس علي كل مسلم، و في يوم الثلاثاء 12 محرم سنة 1333 ه خرج السيد مهدي



[ صفحه 458]



الحيدري قاصدا ساحة الحرب و بصحبته الشيخ مهدي الخالصي و جماعة من المجاهدين، و خرجت البلدة بأسرها لتشييع موكب الجهاد الزاحف، و كانت البلدة تستقبل وفود العلماء الزاحفين نحو المعركة من النجف و كربلاء و غيرهما بمنتهي الترحاب و التكريم و تودعهم الي ساحة القتال بمثل ذلك.

و احتل الجيش البريطاني الكاظمية في السابع عشر من جمادي الاولي سنة 1335 ه، فطويت صفحة احتلال عثماني طويل لتبدأ صفحة احتلال آخر، و لم تنقطع الكاظمية بعد الاحتلال البريطاني الغاشم عن العمل الجاد في محاربته بكل ما اوتيت من طاقات و قوي مادية و معنوية، و يدل علي ذلك ما جاء في رسائل المس بيل: «الكاظمية المتطرفة في ايمانها بالوحدة الاسلامية، و المتشددة في مناوأة الانكليز». و كتب فيليب آيرلاند البريطاني يقول: «و كان الشعور المعادي لبريطانيا في الكاظمية شعورا قويا جدا، فقد هدد العلماء جميع من يصوت للاحتلال البريطاني بالمروق عن الدين».