بازگشت

الامام مع حكام عصره


لقد ادرك الامام موسي بن جعفر (ع) من حياة ابيه عشرين عاما، شاهد في الشطر الاخير منها موقف اولئك الحكام الذين كانوا يتباكون بالامس علي ما حل ببني عمومتهم آل علي (ع) من ظلم و اضطهاد و قتل و تشريد، شاهد موقفهم مع ابيه الذي كان منصرفا عن الخلافة و السياسة الي الدفاع عن الاسلام و نشر تعاليمه، و مع العلويين الذين لم يطيقوا الصبر علي الظلم و الطغيان فكانوا يخرجون بين الحين و الآخر فرارا بدمائهم و دفاعا عن المعذبين و المستضعفين و تجرع مرارة تلك الاحداث القاسية التي قضت علي الكثيرين منهم، و رأي أباه و هو يتعرض لتحديات المنصور و تهديده له بالقتل تارة والحبس اخري و قد سخر اجهزته لمراقبته في جميع حالاته، حتي اضطره لأن) يتستر بالنص عليه حتي عن عامة الشيعة و لم يرشد اليه الا فئة من خلص اصحابه ( و أوصاهم بالتكتم و الحذر من عيون المنصور و زبانيته المنتشرين هنا و هناك. لقد استقبل امامته التي استمرت خمسة و ثلاثين عاما في هذا الجو المشحون بالحقد و الكراهية لاهل البيت، فلزم جانب الحذر واعتصم بالكتمان الا عن الخاصة الذين يقدرون حراجة الموقف و يعرفون كيف يدعون اليه كما تشير الي ذلك رواية هشام بن سالم التي ذكرناها في الفصول السابقة.

و يبدو من المرويات التي تعرضت لتاريخه، انه بقي طيلة حياته يتقي شر



[ صفحه 322]



العباسيين و لا يسمح حتي لشيعته و تلامذته من الاتصال به بالشكل الذي اعتاده في عهد أبيه، و حتي ان رواة أحاديثه قلما كانوا يروون عنه باسمه الصريح، بل بكنيته تارة فيقول الراوي: سمعت اباابراهيم، او اباالحسن، و بألقابه اخري، كالعبد الصالح و العالم و السيد و نحو ذلك، و أحيانا بما يشير اليه فيقول: حدثني الرجل و سمعت الرجل و كتبت اليه و نحو ذلك مما يدل علي ان الحكام الذين عاصرهم كانوا يراقبونه بدقة و يحصون عليه و علي اصحابه انفاسهم، و كان هو بدوره يؤكد علي اصحابه و خاصته ان يستعملوا التقية حتي في امور دينهم و عباداتهم كي لا يتعرضوا للخطر و الانتقام من حكام زمانه.

فقد جاء في رواية عبدالله بن ادريس عن ابن سنان انه قال: حمل الرشيد في بعض الأيام علي علي بن يقطين ثيابا اكرمه بها، و كان علي بن يقطين من خيرة اصحاب ابي الحسن موسي بن جعفر و أجلائهم و يتولي مركزا كبيرا في دولتهم بأمر الامام و هم لا يعرفون مذهبه و ميوله، و كان اذا اهدي اليه الرشيد هدية من ثياب و غيرها قدمها الي الامام (ع)، و من جملة الثياب التي اهداها اليه الرشيد دراعة خز سوداء من لباس الملوك مطرزة بالذهب، فأنفذ ابن يقطين جل تلك الثياب الي الامام (ع) و من جملتها الدراعة و مبلغ من المال، فلما وصل ذلك الي الامام (ع) قبل المال ورد الدراعة علي يد الرسول لعلي بن يقطين، و كتب اليه: احتفظ بها و لا تخرجها من يدك فسيكون لك بها شأن يحتاج اليها معه، فارتاب بردها عليه و لم يدر السبب في ذلك.

و بعد أيام تغير علي غلام له كان يتولي خدمته و يعرف ميوله الي أبي الحسن و ما كان يحمله اليه من الأموال و الهدايا فسعي به الغلام الي الرشيد و أخبره بأنه يقول بامامته و يحمل اليه خمس ماله في كل سنة و قد أرسل اليه فيما ارسله الدراعة التي اكرمته بها، فاستشاط الرشيد غضبا و قال: لأكشفن هذا الأمر فان صح عليه ذلك ازهقت نفسه، واستدعاه اليه في الحال، فلما مثل



[ صفحه 323]



بين يديه قال له: ما فعلت بالدراعة التي كسوتك بها؟ فقال: يا اميرالمؤمنين هي عندي في سفط مختوم فيه طيب قد احتفظت بها و كلما اصبحت فتحت السفط و نظرت اليها تبركا بها و قبلتها ثم رددتها الي موضعها، فقال له الرشيد: عليك ان تحضرها الساعة، فاستدعي بعض خدمه و قال له: امض الي البيت الفلاني في داري و خذ مفتاحه من خازني وافتحه، ثم افتح الصندوق وجئني بالسفط الذي فيه بختمي فلم يلبث الغلام ان جاء بالسفط مختوما فوضعه بين يدي الرشيد ففتحه و وجد الدراعة فيه بحالها مدفونة بالطيب فسكن غضب الرشيد و قال له: ردها الي مكانها، وانصرف راشدا فلن اصدق عليك بعد اليوم ساعيا و أمر بضرب الساعي الف سوط فمات تحت السياط.

و جاء في رواية ثانية عن محمد بن الفضل انه قال: اختلفت الرواية بين اصحابنا في مسح الرجلين أهو من الاصابع الي الكعبين، أم من الكعبين الي الاصابع، فكتب علي بن يقطين الي الامام (ع) يستفتيه في ذلك فرجع الجواب من الامام يأمره فيه بغسل الرجلين في الوضوء بدلا من مسحهما، فتعجب من ذلك لأنه خلاف ما يعهده من مذهب أهل البيت ولكنه التزم بما أمره به في وضوئه و بعد ذلك بأيام و شي احد اخصامه به الي الرشيد و قال له: انه رافضي يخالفك في المذهب و يقول بامامة موسي بن جعفر، فقال لبعض خاصته: لقد كثر القول في علي بن يقطين و ميله الي الرفض و لست اري في خدمته تقصيرا و قد امتحنته مرارا فلم اقف منه علي شي ء، فقيل له: ان الرافضة تخالف الجماعة في الوضوء فتخففه و لا تري غسل الرجلين فامتحنه من حيث لا يعلم بالوقوف علي وضوئه، فاستحسن الرشيد هذا الرأي و تركه مدة ثم كلفه بعمل معه في داره، و كان اذا اشتغل في الدار يخلو الي حجرة فيه لوضوئه و صلاته، فلما دخل وقت الصلاة و وقف الرشيد يترصده كيف يتوضأ بحيث لا يراه احد فتمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا و غسل وجهه و خلل شعر لحيته ثم غسل يديه الي المرفقين و مسح رأسه و أذنيه و غسل رجليه



[ صفحه 324]



ثلاثا كما امره الامام (ع) في كتابه اليه، هذا و الرشيد ينظر اليه، فلما رآه قد فعل ذلك لم يملك نفسه حتي اشرف عليه و ناداه: كذب يا علي بن يقطين من زعم انك من الرافضة. و بعد ذلك كتب اليه الامام يأمره بأن يعود الي ما كان عليه في وضوئه و أن يمسح مقدم رأسه و ظاهر قدميه الي الكعبين كما عليه مذهب أهل البيت (ع).

الي غير ذلك من المرويات الكثيرة التي تؤكد أن الامام موسي بن جعفر (ع) بعد أبيه كان تحت رقابة الحكام هو و أصحابه و قد اتخذ كافة الاحتياطات حتي لا يتعرض هو و شيعته للقتل او الحبس أو التشريد و مع ذلك فقد تعرض العشرات من شيعته و أصحابه للقتل و التشريد و كانت نهايته علي أيدي الجلادين من جلاوزتهم بعد أن بقي في سجونهم اكثر من احد عشر عاما كما سنتعرض لذلك في ختام هذا الفصل من فصول حياته.

و يبدو من تتبع المراحل التي مر بها انه في السنوات العشر التي قضاها بعد وفاة ابيه الامام الصادق (ع) في عهد المنصور الدوانيقي لم يلتق فيها بالمنصور و لا استدعاه الي بغداد كما كان يستدعي اباه و يتهدده بالقتل، و لا تعرض في عهد للحبس كما تعرض في عهد ولده محمد المهدي و حفيده هارون الرشيد، في حين انه كان اخبث منهما نفسا كما تؤكد سيرته مع الامام الصادق و العلويين، و لما تلقي نبأ وفاة الصادق (ع) كتب الي عامله علي المدينة محمد بن سليمان يأمره بقتل من اوصي اليه، و أصيب بالخيبة حينما كتب له الوالي بأنه اوصي الي خمسة احدهم المنصور، فقال: ليس الي قتل هؤلاء من سبيل كما ذكرنا.

و من أكثر الأمور دلالة علي سوء سريرته و حقده علي البيت العلوي و كل من يتصل به بالولاء حديث الخزانة التي سلم مفاتيحها الي ريطة زوجة المهدي و أوصاها بأن لا تفتحها الا بعد وفاته و بحضور خليفته، و في الخزينة اكثر من مائة قتيل من العلويين و الي جانب كل قتيل رقعة باسمه و نسبه، و لم تكن



[ صفحه 325]



تعلم بذلك لا هي و لا زوجها و لا أحد من الناس، و ظنت و هو يوصيها و يؤكد عليها بالكتمان و عدم فتحها الا بعد وفاته، ظنت ان فيها من الأموال و المجوهرات و التحف ما لا يمكن تقديره بثمن معين.

و لم أجد تفسيرا للاحتفاظ بتلك الجثث الزواكي و تسليمها الي خليفته في الساعات الوائل من استيلائه علي السلطة، الا انه اراد ان يشجعه علي اختيار اسلوب العنف و القسوة علي العلويين و كل من يشكل بنظرهم خطرا علي عروشهم و وجودهم.

و لعل من ابرز الاسباب التي قضت علي المنصور باتخاذ هذا الموقف منه ان الامام اباابراهيم (ع) كان يقدر الك الظروف القاسية التي كانت تحيط به فاعتصم في بيته وانكمش حتي عن شيعته و أصحابه و لم يظهر الا للخواص منهم في ضمن حدود معينة، و كانوا كما ذكرنا من قبل اذا اطمأنوا الي شخص و أدخلوه عليه يوصيه بالكتمان الشديد و يحذره من عواقب الاعلان عنه، مما يوحي بأن المنصور في تلك الفترة كان يتحراه بكل وسائله و من الجائز ان لا يهتدي اليه و ان لا يعرف بمكانه في تلك السهولة، و حتي لو عرفه و أيقن بأنه الخليفة الشرعي لأبيه، فما دام معتزلا الناس و منقطعا عنهم فلا يضره ذلك و لا يراه خطرا علي عرشه، لا سيما و ان الكثير ممن كانوا حول أبيه قد رجع بعضهم الي اخيه الافطح عبدالله، و بعضهم الي اخيه اسماعيل و حصل ارتباك بين الشيعة في تلك الفترة مزق وحدتهم و فرق جماعتهم و فتح المنصور لتلك الفرق و الجماعات التائهة صدره و قلبه، و ثمة ظاهرة اخري بدت في سياسة المنصور يوم ذاك، فقد اتجه الي العلماء المعاصرين للامامين الصادق و الكاظم (ع) فمدهم بالمال و رفع من شأنهم و تظاهر بتكريمهم و حاول ان يفرضهم علي الناس ليصرف الانظار عن العلويين و فقههم و آثارهم، و قال يوما لبعض جلسائه: لقد بلغت من لذة الدنيا الحد الاقصي و لم يبق في نفسي الا ان اجلس انا والعلماء في مجلس واحد.



[ صفحه 326]



لقد كان يقربهم و يدنيهم و يغدق عليهم الهبات و الاموال ليحدثوا بعدله و فضله و شرعية خلافته و أنه و آله ورثة الرسول والاقربون اليه، و وجد من العلماء من يتجاوب معه ويكيل له و لاسرته المدح والثناء كمالك بن انس و أمثاله، و في مقابل ذلك حاول ان يفرض موطأ مالك علي الناس بالسيف و جعل له السلطة في الحجاز علي الولاة و جميع موظفي الدولة فازدحم الناس علي بابه و تهيبه الولاة و الحكام و حينما و فد الشافعي عليه تشفع بالوالي لكي يسهل له أمر الدخول عليه، فقال له الوالي: ان امشي من المدينة الي مكة حافيا راجلا اهون علي من المشي الي باب مالك، و لست اري الذل حتي اقف علي باب داره كما جاء في المجلد الثالث من الامام الصادق و المذاهب الأربعة عن معجم الادباء.

هذه الظاهرة من المنصور لم تكن للعلم و لا للدين بلا شك في ذلك، بل كانت منه تحسبا من ظهور الخليفة الشرعي للامام الصادق الذي كان يتحراه منذ اللحظات الاولي لوفاة ابيه، و هو لا يشك بأنه اذا ظهر للناس سيكون حديثهم في كل مكان و سيلتف حوله العلماء و طلاب العلم و تلامذة ابيه من جيمع الاقطار، و هذا ما لا يطيقه المنصور لاحد من العلويين مادام يري فيه خطرا علي ملكه و زعامة بيته، و من غير المعقول في ميازين السياسيين و عشاق الحكم، و هم يظنون بأن ذلك يشكل خطرا علي عروشهم ان يتغاضوا عنه، و لا يضعوا في طريقة كل هذه الصعاب و العقبات. و مجمل القول ان الامام موسي بن جعفر (ع) كان منكمشا في السنين الاولي من امامته حتي عن شيعته و أصحابه و قد حاربه المنصور بهذه الاساليب مكتفيا بها عن حبسه و التنكيل به، و حينما اشتهر امره، و رجع اليه اكثر المنحرفين عنه والتف حوله العلماء و الرواة و أصبح حديث العدو و الصديق في عهد المهدي العباسي استدعاه الي بغداد اكثر من مرة بقصد التنكيل به ولكن ارادة الله كانت تحول بينه و بين ما يريد.

و جاء في تذكرة الخواص لابن الجوزي: ان اهل السير قالوا: لقد كان



[ صفحه 327]



مقام موسي بن جعفر بالمدينة فاستدعاه المهدي الي بغداد و حبسه بها ثم رده الي المدينة لطيف رآه، و مضي يقول: روي الخطيب في تاريخ بغداد عن الفضل بن الربيع عن أبيه أنه قال: لما حبس المهدي موسي بن جعفر رأي في بعض الليالي علي بن أبي طالب في نومه فقال له: يا محمد فهل عسيتم ان توليتم ان تفسدوا في الارض و تقطعوا ارحامكم، قال الربيع: فأرسل الي المهدي ليلا فراعني ذلك مجيئه و اذا هو يقرأ الآية و كان احسن الناس صوتا، فقال لي: علي بموسي بن جعفر، فلما جئته به قام اليه و عانقه و أجلسه الي جانبه و قال: يا اباالحسن رأيت الساعة أميرالمؤمين و هو يقرأ علي هذه الآية افتؤمنني ان لا تخرج علي و لا علي احد من ولدي، فقال: والله ما فعلت ذلك ابدا و لا هو من شيمتي، فقال: صدقت، ثم قال: يا ربيع اعطه ثلاثة آلاف دينار ورده الي اهله، قال الربيع: فأحكمت امره ليلا فما اصبح الا و هو في الطريق الي المدينة مخافة العوائق.

و مما يدل علي ان المهدي العباسي قد استدعي الامام (ع) الي بغداد اكثر من مرة رواية الكليني في الكافي عن احمد بن محمد و علي بن ابراهيم بسندهما الي ابي خالد الزبالي انه قال: لما اقدم بأبي الحسن موسي بن جعفر علي المهدي القدمة الاولي نزل زبالة و منت احدثه فرآني مغموما فقال لي: يا اباخالد مالي اراك مغموما؟ فقلت: و كيف لا اغم و أنت تحمل الي هذا الطاغية و لا ادري ما يحدث فيك، فقال: ليس علي بأس اذا كان شهر كذا و يوم كذا فوافني في اول الميل، فما كان لي هم الا احصاء الشهور و الايام حتي كان ذلك اليوم فوافيت الميل فما زلت عنده حتي كادت الشمس ان تغيب و وسوس الشيطان في صدري و تخوفت ان اشك فيما قال فبينا أنا كذلك اذ نظرت الي سواد قد أقبل من ناحية العراق فاستقبلتهم فاذا ابوالحسن (ع) امام القطار علي بغلة، فقال: يا اباخالد، قلت: لبيك يا ابن رسول الله، فقال: لا تشكن ود الشيطان انك شككت، فقلت: الحمدلله الذي خلصك منهم، فقال: ان لي عودة اليهم لا اتخلص منها.



[ صفحه 328]



و جاء في بعض المرويات ان المهدي العباسي قد عرض علي الامام موسي بن جعفر ان يرد فدكا فرفض قبولها، و لما ألح عليه المهدي قال لا أقبلها الا بحدودها، قال: و ما حدودها؟ قال: الحد الأول عدن، فتغير وجهه، والحد الثاني سمرقند فاربد وجهه، والحد الثالث افريقية، فقال له المهدي: والحد الرابع، قال: سيف البحر ما يلي الخزر و ارمينية، فقال له: لم يبق شي ء، فتحول الي مجلسي، فرد عليه الامام بقوله: لقد اعلمتك بأني ان حددتها لم تردها.

و في رواية الزمخشري في ربيع الأبرار ان هذا الحوار كان بين هارون الرشيد و بين الامام موسي بن جعفر و لا منافاة في ذلك الجواز ان يتكرر مع الاثنين.

و بقي الامام الكاظم طيلة حكم المهدي و ولده الهادي تحت الرقابة الشديدة و قد استدعاه محمد المهدي الي بغداد اكثر من مرة و هو حاقد و قد حبسه و أطلقه من سجنه لرؤيا رآها كما ذكرنا، و لم اجد فيما بين يدي من المراجع ما يشير الي ان ولده موسي الهادي قد اساء الي الامام أو استدعاه الي بغداد مع أنه كان معروفا بالشدة و القسوة، و لعل المدة القصيرة التي حكم فيها لم تسمح له بممارسة اسلوب جده و أبيه ولو طال به العهد لسار علي دربهما و لم ينحرف عنها لحظة ابدا.

اما السنين التي قضاها الامام (ع) في عهد الرشيد فكانت اسوأ ما مر عليه في حياته فلقد سخر اجهزته لمراقبته و استدعاه الي بغداد أكثر من مرة في مطلع خلافته و هو حاقد عليه و كان يضعه في سجنه ثم يأمر باخراجه بعد مرة من الزمن، و أحيانا كان يتظاهر باكرامه و تعظيمه دجلا و نفاقا.

فقد جاء في المجلد الثاني من مروج الذهب للمسعودي عن عبدالله ابن مالك الخزاعي و كان علي دار الرشيد و شرطته علي حد تعبير المسعودي، جاء عنه انه قال: اتاني رسول الرشيد في وقت ما جاءني فيه قط فأفزعني من



[ صفحه 329]



موضعي و منعني من تغيير ثيابي فراعني ذلك، فلما صرت الي الدار سبقني الخادم فعرف الرشيد خبري فأذن لي بالدخول فدخلت و وجدته قاعدا علي فراشه فسلمت عليه فسكت ساعة فطار عقلي و تضاعف جزعي، ثم قال لي: يا عبدالله أتدري لم طلبتك في هذا الوقت، قلت: لا والله يا اميرالمؤمنين، قال: اني رأيت الساعة في منامي كأن حبشيا قد اتاني و معه حربة فقال ان لم تخل عن موسي بن جعفر الساعة و الا نحرتك بهذه الحربة، فاذهب و خل عنه، فقلت: يا أميرالمؤمنين اطلق موسي بن جعفر و كررت ذلك عليه ثلاثا، قال: نعم امض الساعة حتي تطلقه واعطه ثلاثين الف درهم، و قل له: ان احببت المقام فلك عندي ما تحب و ان احببت المضي الي المدينة فالامر في ذلك اليك، قال عبدالله بن مالك: فمضيت الي الحبس لأخرجه فلما رآني و ثب الي قائما و ظن اني قد امرت فيه بمكروه فقلت: لا تخف قد أمرني أميرالمؤمنين باطلاقك و ان ادفع اليك ثلاثين الف درهم و هو يقول لك: ان احببت المقام قبلنا فلك ما تحب و ان احببت الانصراف فالامر في ذلك مطلق اليك و أعطيته الثلاثين الف درهم و خليت سبيله، و قلت له: لقد رأيت من امرك عجبا، قال: فاني اخبرك: بينما انا نائم اذا اتاني النبي (ص) فقال موسي حبست مظلوما، فقل هذه الكلمات فانك لاتبيت هذه الليلة في الحبس، فقلت له بأبي و أمي ما أقول، فقال: قل يا سامع كل صوت و يا سابق الفوت له بأبي و أمي ما أقول، فقال: قل يا سامع كل صوت و يا سابق الفوت و يا كاسي العظام لحما و ناشرها بعد الموت اسألك بأسمائك الحسني و باسمك العظيم الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه احد من المخلوقين، يا حليما ذا الاناة لا يقوي علي اناته احد يا ذا المعروف الذي لا ينقطع ابدا و لا يحصي عددا فرج عني، فكان ما تري.

و يبدو من بعض الروايات انه حبسه اكثر من مرة و كان يطلقه و يعتذر منه و يرده الي المدينة معززا مكرما.

و احيانا كان يستدعيه الرشيد لبغداد او يقصده الامام (ع) عندما يذهب الي المدينة في طريقه الي مكة فيجعله و يفضله علي جميع الناس، فقد



[ صفحه 330]



روي الصدوق عن الامام موسي بن جعفر (ع) انه قال: لما ادخلت علي الرشيد قال لي: لم جوزتم للعامة و الخاصة ان ينسبوكم الي رسول الله (ص) و أنتم بنوعلي و انما ينسب المرء الي ابيه و النبي (ص) جدكم منم قبل امكم؟

فقلت له: يا اميرالمؤمنين لو ان النبي نشر و خطب اليك كريمتك أكنت تجيبه؟ فقال: سبحان الله و لم لا اجيبه، فقلت: لكنه لا يخطب الي و لا ازوجه، فقال: و لم يا ابالحسن؟ فقلت: لأنه ولدني و لم يلدك، فقال: احسنت يا موسي، ثم قال: كيف قلتم انا ذرية النبي و النبي (ص) لم يعقب و انما العقب للذكر لا للانثي و أنتم من ولد ابنته، فسألته بالقرابة و بحق القبر و من فيه الا ما اعفاني من الجواب فقال: لابد و ان تخبرني بحجتكم يا ولد علي و أنت يا موسي يعسوبهم و امام زمانهم كما انهي الي و لست اعفيك حتي تأتيني بحجة من كتاب الله فقرأ عليه الامام الآية:

(و من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسي و هارون و كذلك نجزي المحسنين و زكريا و يحيي و عيسي)، و هنا سأله الامام (ع): من ابوعيسي يا اميرالمؤمنين؟ فقال: ليس لعيسي أب، فقال الامام انما الحقناه بذراري الانبياء عن طريق امه مريم، و نحن الحقنا بذرية النبي من قبل امنا فاطمة (ع)، و مضي الامام يقول: و ان شئت ازيدك يا اميرالمؤمنين، فقال: نعم، فقرأ عليه آية المباهلة (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع ابناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الكاذبين)، و أضاف الي ذلك أنه لم يدع احد ان النبي ادخل تحت الكساء عند مباهلة النصاري غير علي و فاطمة والحسن والحسين فكان تأويل قوله عزوجل ابناؤنا الحسن والحسين و نساؤنا فاطمة و أنفسنا علي ابن أبي طالب، فقال له الرشيد: لقد اصبت و أحسنت يا اباالحسن.

و يروي الرواة عن المأمون أنه قال لجماعة من أصحابه: اتدرون من علمني التشيع؟ فقال القوم جميعا: لا والله ما نعلم ذلك، قال علمنيه الرشيد، قيل له: و كيف ذلك والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت؟ قال:



[ صفحه 331]



كان يقتلهم علي الملك لأن الملك عقيم، لقد حججت معه سنة فلما صار الي المدينة تقدم الي حجابه و قال: لا يدخلن علي رجل من أهل المدينة و مكة من أبناء المهاجرين و الانصار و بني هاشم و سائر بطون قريش الا نسب نفسه، فكان الرجل اذا اراد ان يدخل عليه يقول: انا فلان بن فلان حتي ينتهي الي جده من هاشم او قريش و غيرهما فيدخل و يصله الرشيد بخمسة آلاف و ما دونها الي مايتي دينار علي قدر شرفه و هجرة آبائه، فبينما انا ذات يوم واقف اذ دخل الفضل بن الربيع فقال: يا اميرالمؤمنين علي الباب رجل زعم انه موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) فأقبل علينا و نحن قيام علي رأسه و الامين و المؤتمن و سائر القواد و قال احفظوا علي انفسكم، ثم قال لآذنه ائذن له و لا ينزل الا علي بساطي، فانا كذلك اذ دخل شيخ قد انهكته العبادة كأنه شن بال قد كلم السجود وجهه وانفه، فلما رأي الرشيد رمي بنفسه عن حمار كان يركبه فصاح الرشيد: لا والله الا علي بساطي فمنعه الحجاب من الترجل، و نظرنا اليه بأجمعنا بالاجلال و الاعظام، فما زال يسير علي حماره حتي سار الي البساط و الحجاب و القواد محدقون به فنزل و قام اليه الرشيد واستقبله الي آخر البساط و قبل وجهه و رأسه و أخذ بيده حتي جره في صدر المجلس و أجلسه معه و جعل يحدثه و يقبل عليه و يسأله عن احواله، و لما قام الرشيد لقيامه و ودعه، ثم أقبل علي و علي الامين و المؤتمن، و قال: يا عبدالله و يا محمد و يا ابراهيم سيروا بين يدي عمكم و سيدكم و خذوا بركابه و سووا عليه ثيابه.

و في رواية ان المأمون استغرب من أبيه هذا الصنيع و سأله بعد ان انفرد به عن سبب هذا التقدير و الاجلال، فقال له: يا بني انه صاحب الحق، فقال له المأمون: اذا كنت تعلم ذلك فرد عليه حقه، فقال انه الملك، والله لو نازعتني فيه لاخذت الذي فيه عيناك الي غير ذلك مما يرويه الرواة عن مواقفه معه التي يبدو في بعضها في منتهي القسوة و الشدة و في بعضها الآخر في منتهي الرفق واللين و التسامح، و ليس ذلك ببعيد عليه و لا



[ صفحه 332]



بغريب عن اسلوبه في حياته مع الناس، فلقد كان يتكيف مع الظروف و المناسبات و يستدعي الوعاظ و العلماء ليذكروه بالله و هو يبكي حتي ليظن من يراه ان نفسه ستذهب خوفا و وجلا، و يصلي اكثر من مائة ركعة في اليوم كما جاء ذلك في المجلد الأول من عصر المأمون، فاذا جاء وقت الشراب و الندمان و الجواري تراه انسانا آخر من اسوأ الناس حالا و اذا علم ان شخصا لا يقره علي ظلمه، او ظن بأن انسانا يشكل خطرا علي مجده و عرشه يعود سفاحا يلتذذ باراقة الدماء و التعذيب كما تتلذذ الوحوش الضاربة بفريستها.

و مهما كان الحال فبالرغم من الحصار الذي ضربه الرشيد علي الامام موسي بن جعفر، فلقد اتسعت شهرته في الحجاز و العراق و جميع المناطق و قصده العلماء و طلاب العلم و رجع الي القول بامامته اولئك الذين انحرفوا عنه بالامس والتف حوله الشيعة يجبون اليه خمس اموالهم و زكاتها و لم يكن ليخفي علي الرشيد شي ء من ذلك، و بالاضافة الي ذلك فقد شحنه الوشاة و الحاقدون بالخوف علي عرشه و دولته و وفد عليه اقرب الناس الي موسي بن جعفر محمد بن اسماعيل ليقول له: خليفتان في عصر واحد عمي موسي بن جعفر بالحجاز، والرشيد في بغداد، و تتراكم الصور المخيفة منه في نفس الرشيد حتي تبلغ ذروتها و حينما وقف علي قبر النبي و حوله ملأ من الناس و قال: السلام عليك يا ابن العم، و كان الامام موجودا الي جانب القبر فقال علي الفور: السلام عليك يا ابتاه، قال ذلك ليفسد عليه غايته، لان الرشيد كان من قصده ان يستعلي علي الناس بقرابته للرسول و يوهمهم بأن ارثه قد تحدر اليه من جده العباس عم النبي (ص) فاغتاظ الرشيد من ذلك و صمم علي التخلص منه كما يدعي الرواة.

و جاء في رواية الكليني عن موسي بن القاسم البجلي عن علي بن جعفر انه قال: جاءني محمد بن اسماعيل و قد اعتمرنا عمرة رجب و نحن بمكة فقال: يا عم اني اريد بغداد و قد احببت ان اودع عمي اباالحسن و أحببت ان تذهب معي اليه فخرجت معه نحو أخي و هو في داره التي بالحوية و ذلك



[ صفحه 333]



بعد المغرب بقليل فضربت الباب فأجابني اخي فقال: من هذا؟ فقلت: علي، فقال: هوذا اخرج، و كان بطي ء الوضوء فقلت: العجل، فخرج عليه ازار ممشق عقد عقده في عنقه حتي قعد عتبة الباب فقال علي بن جعفر: قد جئتك في أمر ان تره صوابا فالله وفق له كان غير ذلك فما اكثر ما نخطي ء، قال: و ما هو؟ قلت: هذا ابن أخيك يريد ان يودعك و يخرج الي بغداد، فقال لي ادعه، فدعوته و كان متنحيا فدنا منه و قبل رأسه و قال: جعلت فداك، أوصني، فقال: اوصيك ان تتقي الله في دمي، فقال مجيبا له: من ارادك بسوء فعل الله به و جعل يدعو علي من يريده بسوء، ثم عاد و قبل رأسه و قال: يا عم اوصني فقال: )اوصيك ان تتقي الله بدمي، فقال: من ارادك بسوء فعل الله به و فعل، ثم عاد و قبل رأسه و قال : اوصني ، فقال اوصيك ان تتقي الله في دمي،(ثم تنحي عنه و مضيت معه، فقال لي أخي، مكانك فوقفت مكاني و دخل منزله، ثم دعاني فدخلت اليه فتناول صرة فيها مائة دينار و قال: اعطها لابن اخيك يستعين بها علي سفره، قال علي بن اسماعيل: فأخذتها، ثم ناولني مائة اخري و قال لي: اعطه اياها، و ناولني صرة ثالثة و قال: اعطه اياها، فقلت: جعلت فداك اذا كنت تخاف منه مثل الذي ذكرت، فلم تعينه علي نفسك، فقال: اذا وصلته و قطعني قطع الله اجله، ثم تناول مخدة أدم فيها ثلاثة آلاف درهم و قال: اعطه هذه ايضا، قال علي بن جعفر: فخرجت اليه و أعطيته المائة الأولي ففرج بها و دعا لعمه، ثم اعطيته الثانية و الثالثة ففرج بهما حتي ظننت انه سيرجع و لا يخرج لبغداد، ثم اعطيته الدارهم فمضي علي وجهه حتي دخل علي هارون فسلم عليه بالخلافة و قال: ما ظننت ان في الأرض خليفتين حتي رأيت عمي موسي بن جعفر يسلم عليه بالخلافة، فأرسل اليه هارون مائة الف درهم فرماه الله بالذبحة فما نظر منها الي درهم و لا مسه.

و روي الكشي حديث وشاية محمد بن اسماعيل علي عمه بما يقرب من هذه الرواية.



[ صفحه 334]



و في بعض الروايات ان الواشي هو علي بن اسماعيل، و قد اتصل بيحيي بن خالد البرمكي فاتفق و اياه علي الوشاية الامام (ع) ثم ادخله علي الرشيد فأكرمه و أجلسه الي جانبه، و جعل يسأله عن عمه الامام موسي بن جعفر، فقال له خليفتان في عصر واحد عمي موسي بن جعفر في الحجاز و أنت يا أميرالمؤمنين بالعراق، و قد تركت الناس يسلمون عليه بالخلافة، و أضاف الي ذلك يحيي بن خالد البرمكي، ان الأموال تجبي اليه من المشرق و المغرب و قد اشتري ضيعة بثلاثين الف دينار و سماها اليسيرة و قال له بائعها و قد احضر له المال: لا آخذ هذا النقد و لا اقبل الا نقدا معينا سماه له فاسترجع منه النقد الذي دفعه له و أعطاه ثلاثين الف دينار من النقد الذي سماه له، فدفع الرشيد الي علي بن اسماعيل لقاء وشايته علي عمه مايتي الف دينار فمات قبل ان تصل ليده، و كان الامام قد قال لاخيه علي بن جعفر بعد ان عاتبه علي صلته له، قال له: اذا وصلته و قطعني قطع الله اجله كما ذكرنا.



[ صفحه 335]