بازگشت

التسلل إلي النظام


ولعل أوضح شواهد القوة عند الحركة الرسالية في عصر الإمام الكاظم (عليه السلام) هو حجم تسلل عناصرها في أجهزة النظام، والذي يدل علي مدي نفوذهم في مجمل المؤسسات الرسمية، ولعلّ رأس النظام كان علي علم وإن بصورة إجمالية بولاء رجاله لآل البيت، لكنه كان عاجزاً عن الانقلاب عليهم لسبب أو لآخر، وقبل أن نورد بعض القصص التاريخية لهذا التسلل، يجدر أن نعلم أن متانة الشبكة التنظيمية التي كانت تتمتع بها الحركة الرسالية التي أوجدت هذا المدي الواسع من العناصر في مختلف أجهزة النظام الحساسة، لتعتبر نموذجاً لما ينبغي أن تكون عليه التنظيمات الرسالية في كل مكان.

1 - يبدو أن بعض رؤساء المحافظات أو حسب تعبيرهم يومئذ (الولاة) كانوا منتمين إلي الحركة، فمثلاً مدينة (الري) وهي طهران الحالية، كانت من الحواضر العامة في ذلك اليوم، ومع ذلك كان واليها واحداً من موالي أهل البيت، كما تذكر الرواية التالية من كتاب قضاء حقوق المؤمنين لأبي علي بن طاهر الصوري بإسناده عن رجل من أهل الري قال: ولّي علينا بعض كتاب يحيي بن خالد، وكان عليّ بقايا يطالبني بها، وخفت من إلزامي إيّاها خروجاً عن نعمتي، وقيل لي: أنه ينتحل هذا المذهب، فخفت أن أمضي إليه فلا يكون كذلك فأقع فيما لا أحب، فاجتمع رأيي علي أني هربت إلي الله تعالي، وحججت ولقيت مولاي الصابر - يعني موسي بن جعفر (ع) - فشكوت حالي إليه فأصحبني مكتوباً نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم اعلم أن لله تحت عرشه ظِلاً لا يسكنه إلاّ من أسدي إلي أخيه معروفاً أو نفّس عنه كربة، أو أدخل علي قلبه سروراً، وهذا أخوك والسلام.

قال: فعدت من الحجّ إلي بلدي، ومضيت إلي الرجل ليلاً، واستأذنت عليه وقلت: رسول الصابر (ع) فخرج إليّ حافياً ماشياً، ففتح لي بابه، وقبّلني وضمني إليه، وجعل يقبّل بين عيني، ويكرّر ذلك كلما سألني عن رؤيته (ع)، وكلما أخبرته بسلامته وصلاح أحواله استبشر وشكر الله، ثمّ أدخلني داره وصدّرني في مجلسه وجلس بين يدي، فأخرجت إليه كتابه (ع) فقبّله قائماً وقرأه ثم استدعي بماله وثيابه، فقاسمني ديناراً ديناراً، ودرهماً درهماً، وثوباً ثوباً، وأعطاني قيمة ما لم يمكن قسمته، وفي كلّ شيء من ذلك يقول: يا أخي هل سررتك؟ فأقول: أي والله، وزدت علي السرور، ثم استدعي العمل فأسقط ما كان باسمي وأعطاني براءة مما يتوجّه عليّ منه، وودّعته، وانصرفت عنه.

فقلت: لا أقدر علي مكافأة هذا الرّجل إلاّ بأن أحج في قابل وأدعو له وألقي الصّابر (ع) وأعرّفه فعله، ففعلت ولقيت مولاي الصابر (ع) وجعلت أحدّثه ووجهه يتهلّل فرحاً، فقلت: يا مولاي هل سرّك ذلك؟ فقال: أي والله لقد سرني وسرّ أمير المؤمنين، والله لقد سرّ جدي رسول الله (ص)، ولقد سرّ الله تعالي [1] .

2 - كان علي بن يقطين وزيراً للخليفة وكان يشرف علي بلاد واسعة وكان من أقرب المستشارين لهارون الرشيد وفي الوقت ذاته كان من الموالين لأهل البيت (ع) [2] وسنذكر بإذن الله بعض الأحاديث التي تبين لنا مواقف علي بن يقطين والتي تكشف أن سياسة التقية أو العمل السري لم تكن سياسة مرحلية مؤقتة، بل كانت بمثابة استراتيجية عمل بعيدة المدي، فلعل أئمة الهدي رأوا أن تمكين رجالهم من مراكز الحكم بصورة أو بأخري، أفضل وسيلة لإصلاح أمر الأمة، ولم يجدوا حاجة إلي التغيير السريع في قمة الهرم السلطوي، وتحمل مسؤوليات الحكم بصورة مباشرة وحتي ولو لم يكن بناء الأمة الحضاري قد بلغ من النصج ما يحتمل نظاماً إلهيّاً، كالذي كان أهل البيت (ع) يريدونه.

وبتعبير آخر: إن استراتيجية (التقاطع) مع نظام الحكم وذلك بالسيطرة علي مراكزه الهامة، وشل قدرته من الداخل عن المعارضة ربما كانت الاستراتيجية المثلي لتلك الظروف.


پاورقي

[1] المصدر: (ص 174).

[2] علي بن يقطين بن موسي البغدادي مسكناً، والكوفي أصلاً، مولي بني أسد يكني أبا الحسن، من وجوه هذه الطائفة، جليل القدر، وقد ضمن له الإمام الكاظم (ع) الجنة وأن لا تمسه النار، وفي الكشي أحاديث دلت علي عظم شانه وجلالة قدره، وأنه كان يحمل إلي الإمام الكاظم (ع) أموالاً طائلة، فربما حمل مائة ألف إلي ثلاثمائة ألف، وكان علي يبعث في كل سنة من يحج عنه حتي أحصي له في بعض السنين مائة وخمسين أو ثلاثمائة ملبي، وكان يعطي بعضهم عشرة آلاف وبعضهم عشرين ألف، مثل الكاهلي وعبد الرحمن بن الحجاج وغيرهما، ويعطي أدناهم ألف درهم، له كتب رواها عنه أبنه الحسن وأحمد بن هلال مات سنة 182 في أيام حياة أبي الحسن الكاظم ببغداد، وأبو الحسن في سجن هارون وقد بقي فيه أربع سنين.

" باقتضاب عن شرح مشيخة الفقيه: (ص47) عنه هامش كتاب البحار: (ص 178، ج 48) ".