بازگشت

علم الإمامة


إن قاعدة الرسالات الإلهية قائمة علي أساس الإيمان بالغيب، وأبرز مظاهر الغيب هو العلم به من قبل عباد الله المقربين، أوليس ذات الكتاب الذي يوحي إلي النبي - أيّ نبي - ويؤمر الناس باتباعه من الغيب؟

كيف علّم الله رسوله النبي الأمي كل تلك الرسالة العظيمة وذلك الكتاب الكريم، الذي تحدّي العالمين أن يأتوا بمثل بعض سوره أو آياته.

إننا نقرأ في الكتاب حجة عيسي ابن مريم علي قومه أن ينبئهم بما يدّخرون في بيوتهم.

وهكذا يكون علم الإمام الإلهي الذي تجاوز حدود علم الناس دليلاً علي أنه مؤيد بالله، وأنه الإمام، والحجة علي الناس أجمعين.

كيف يكون هذا العلم؟ هل يكون عبر توارث الحديث عن رسول الله عن جبرائيل عن الله، أم عبر نكت في القلوب ونقرٍ في الأسماع، أو عبر عمود من نور ينظر إليه الإمام متي شاء الله أن يعلم شيئاً فيعلم، أم بنزول الروح - وهو أعظم من الملائكة - عليه ليلة القدر؟!

الصحيح أن كل ذلك وربما غير ذلك مما لا نعلم من سبل العلم الإلهي يكون طريق علم الإمام، ولم نكلف نحن بمعرفة تفاصيل ذلك، إنما يكفينا أن الإمام يعلم - بإذن الله - بما يجهله الناس، وبذلك يفضّل عليهم، ولا بدّ أن يكون مطاعاً فيهم بإذن الله.

جاء في حديث شريف عن أبي عبد الله الصادق (ع):

“ فال قلت: أخبرني عن علم عالمكم؟ قال: وراثة من رسول الله (ص) ومن علي بن أبي طالب (ع)، فقلت: إنَّا نتحدث أنه يقذف في قلبه أو ينكث في إذنه، فقال: أو ذاك “ [1] .

أي لعله يكون ذلك.

والإمام الكاظم نطق بعلم الرسالة في كافة الحقول، ويكفيك وصيته لهشام التي تعتبر خلاصة حكم الأنبياء، وزبدة رؤي الرسالات، وما نذكره فيما يلي رشح من بحر علمه الزاخر:

1 - روي أن إسحاق بن عمار قال: (لما حبس هارون أبا الحسن موسي (ع) دخل عليه أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، صاحبا أبي حنيفة فقال أحدهما للآخر: نحن علي أحد الأمرين، إما أن نساويه أو نشكله، فجلسا بين يديه، فجاء رجل كان موكلاً من قبل السندي بن شاهك، فقال: إن نوبتي قد انقضت وأنا علي الإنصراف فإن كان لك حاجة أمرتني حتي آتيك بها في الوقت الذي تخلفني النوبة؟ فقال: مالي حاجة، فلما أن خرج قال لأبي يوسف:

(ما أعجب هذا يسألني أن أكلفه حاجة من حوائجي ليرجع وهو ميت في هذه الليلة).

فقاما فقال أحدهما للآخر: إنا جئنا لنسأله عن الفرض والسنَّة وهو الآن جاء بشيء آخر كأنه من علم الغيب.

ثم بعثا برجل مع الرجل فقالا: إذهب حتي تلزمه وتنظر ما يكون من أمره في هذه الليلة وتأتينا بخبره من الغد، فمضي الرجل فنام في مسجد في باب داره، فلما أصبح سمع الواعية ورأي الناس يدخلون داره فقال: ما هذا؟ قالوا قد مات فلان في هذه الليلة فجأة من غير علة، فانصرف إلي أبي يوسف ومحمد واخبرهما الخبر، فأتيا أبا الحسن (ع) فقالا: قد علمنا أنك أدركت العلم في الحلال والحرام فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل بك أنه يموت في هذه الليلة؟ قال:

(من الباب الذي أخبر بعلمه رسول الله (ص) علي بن أبي طالب (ع)). فلمّا ردّ عليهما هذا بقيا لا يحيران جواباً) [2] .

هكذا أوتي الإمام موسي بن جعفر (ع) علم المنايا كما أوتي ذلك من قبل أنبياء الله وأوليائه الكرام.

2 - وكذلك أوتي علم منطق الناس بإذن الله تعالي، فقد جاء في الحديث عن ابن أبي حمزة قال: (كنت عند أبي الحسن موسي (ع) إذ دخل عليه ثلاثون مملوكاً من الحبشة اشتروا له، فتكلم غلام منهم فكان جميلاً بكلام فأجابه موسي (ع) بلغته، فتعجب الغلام وتعجبوا جميعاً وظنوا أنه لا يفهم كلامهم، فقال له موسي: إني لأدفع إليك مالاً فادفع إلي كل منهم ثلاثين درهماً، فخرجوا وبعضهم يقول لبعض: إنه أفصح منا بلغاتنا، وهذه نعمة من الله علينا.

قال علي بن أبي حمزة: فلما خرجوا قلت: يابن رسول الله رأيتك تكلم هؤلاء الحبشيين بلغاتهم؟! قال: نعم، قال: وأمرت ذلك الغلام من بينهم بشيء دونهم؟ قال: نعم أمرته أن يستوصي بأصحابه خيراً، وأن يعطي كل واحد منهم في كل شهر ثلاثين درهماً، لأنه لما تكلم كان أعلمهم فإنه من أبناء ملوكهم، فجعلته عليهم وأوصيته بما يحتاجون إليه، وهو مع هذا غلام صدق، ثم قال: لعلك عجبت من كلامي إياهم بالحبشة؟ قلت: إي والله قال: (لا تعجب فما خفي عليك من امري أعجب وأعجب، وما الذي سمعته مني إلاّ كطائر أخذ بمنقاره من البحر قطرة، أفتري هذا الذي يأخذه بمنقاره ينقص من البحر؟! والإمام بمنزلة البحر لا ينفذ ما عنده وعجائبه أكثر من عجائب البحر) [3] .

3 - وجاء في حديث آخر يرويه علي بن حمزة قال: (أرسلني أبو الحسن (ع) إلي رجل قدّامه طبق يبيع بفلس فلس وقال: أعطه هذه الثمانية عشر درهماً وقل له: يقول لك أبو الحسن: انتفع بهذه الدراهم فإنها تكفيك حتي تموت، فلما أعطيته بكي، فقلت: وما يبكيك؟ قال: ولم لا أبكي وقد نعيت إليّ نفسي، فقلت: وما عند الله خير مما أنت فيه، فسكت وقال: من أنت يا عبد الله؟ فقلت علي بن أبي حمزة، قال: والله لهكذا قال لي سيدي ومولاي أني باعث إليك مع علي بن أبي حمزة برسالتي، قال علي: فلبثت نحواً من عشرين ليلة ثم أتيت إليه وهو مريض فقلت: أوصني بما أحببت أنفذه من مالي، قال: إذا أنا متّ فزوج ابنتي من رجل دين، ثم بع داري وادفع ثمنها إلي أبي الحسن، واشهد لي بالغسل والدفن والصلاة. قال: فلما دفنته زوّجت ابنته من رجل مؤمن وبعت داره وأتيت بثمنها إلي أبي الحسن (ع) فزكاه وترحم عليه وقال: رد هذه الدراهم فادفعها إلي ابنته) [4] .

4 - وإذا كان علم الأئمة من الله، فإن الله سبحانه لا يعجزه شيء في السماوات والأرض، وقد تقضي حكمته أن يجعل علمه عند صبي في المهد، كما فعل بالمسيح عيسي ابن مريم ويحيي بن زكريا (ع)، وهكذا أظهر قدرته في شخص الإمام الكاظم (ع) حيث جاء في حديث شريف مأثور عن عيسي شلقان قال: (دخلت علي أبي عبد الله (ع) وأنا أريد أن أسأله عن أبي الخطاب فقال لي مبتدئاً من قبل أن أجلس: ما منعك أن تلقي ابني موسي فتسأله عن جميع ما تريد؟ قال عيسي: فذهبت إلي العبد الصالح (ع) وهو قاعد في الكتّاب وعلي شفتيه أثر المداد فقال لي مبتدئاً: يا عيسي إن الله أخذ ميثاق النبيين علي النبوة فلم يتحوّلوا عنها، وأخذ ميثاق الوصيين علي الوصية فلم يتحولوا عنها أبداً، وإن قوماً إيمانهم عارية، وإن أبا الخطاب ممن أعير الإيمان فسلبه الله إياه، فضممته إليّ وقبلت ما بين عينيه وقلت: ذرية بعضها من بعض.

ثم رجعت إلي الصادق (ع) فقال: ما صنعت؟ قلت: أتيته فأخبرني مبتدئاً من غير أن أسأله عن جميع ما اردت، فعلمت عند ذلك أنه صاحب هذا الأمر، فقال: يا عيسي إن ابني هذا الذي رأيت لو سألته عما بين دفتي المصحف، لأجابك فيه بعلم ثم اخرجه ذلك اليوم من الكتاب) [5] .

5 - حينما يسقط الحجاب بين الرب وعبده، وحينما يبلغ الصفاء الروحي والمعرفة الإلهية القمة، فإن الدنيا تاتي مطيعة للعبد الصالح، كما قال الله في الحديث القدسي:

“ عبدي، أطعني تكن مِثلي (أو مَثَلي) أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون “.

هكذا يروي لنا شقيق البلخي جانباً من الكرامة التي خصها الله تعالي لإمامنا السابع موسي بن جعفر (ع) فيقول: (خرجت حاجّاً في سنة تسع وأربعين ومائة، فنزلت القادسية فبينا أنا أنظر إلي الناس في زينتهم وكثرتهم، فنظرت إلي فتي حسن الوجه شديد السمرة ضعيف، فوق ثيابه ثوب من صوف مشتمل بشملة، في رجليه نعلان وقد جلس منفرداً، فقلت في نفسي: هذا الفتي من الصوفية يريد أن يكون كلا علي الناس في طريقهم، والله لأمضين إليه ولأوبخنَّه، فدنوت فلما رآني مقبلاً قال: يا شقيق:

[اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ] (الحُجُرات/12)

ثم تركني ومضي، فقلت في نفسي إن هذا الأمر عظيم قد تكلم بما في نفسي ونطق بإسمي، وما هذا إلاّ عبد صالح لألحقنَّه ولأسألنه أن يحللني، فأسرعت في أثره فلم ألحقه وغاب عن عيني، فلما نزلنا واقصة وإذا به يصلّ وأعضاؤه تضطرب، ودموعه تجري فقلت: هذا صاحبي أمضي إليه وأستحلّه.

فصبرت حتي جلس، وأقبلت نحوه فلما رآني مقبلاً قال: يا شقيق اتلُ: [وإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَي] (طه/82)

ثم تركني ومضي، فقلت: إن هذا الفتي لّمِنَ الأبدال، لقد تكلّم علي سرّي مرتين، فلما نزلنا زُبالة إذا بالفتي قائم علي البئر وبيده ركوة يريد أن يسقي ماءً، فسقطت الركوة من يده في البئر وانا أنظر إليه، فرأيته قد رمق السماء وسمعته يقول:



أنت ربي إذ ظمئت إلي الماء

وقوتي إذا أردت الطعاما



“ اللهم سيدي مالي غيرها فلا تعدمنيها “.

قال شقيق: فوالله لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤها فمد يده وأخذ الركوة وملأها ماءً، فتوضأ وصلي أربع ركعات، ثم مال إلي كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحركه ويشرب، فأقبلت إليه وسلّمت عليه، فرد عليّ السلام فقلت: أطعمني من فضل ما أنعم الله عليك، فقال: يا شقيق لم تزل نعمة الله علينا ظاهرة وباطنة فاحسن ظنك بربك، ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكّر، فوالله ما شربت ألذّ منه ولا أطيب ريحاً فشبعت ورويت وأقمت أياماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً.

ثم لم أره حتي دخلنا مكة، فرأيته ليلة إلي جنب قبة الشراب في نصف الليل قائما يصلي بخشوع وأنين وبكاء، فلم يزل كذلك حتي ذهب الليل، فلما رأي الفجر جلس في مصلاه يسبّح، ثم قام فصلّي الغداة وطاف بالبيت أسبوعاً وخرج فتبعته، وإذا له غاشية وموال وهو علي خلاف ما رأيته في الطريق، ودار به الناس من حوله يسلّمون عليه، فقلت لبعض من رأيته بقرب منه: من هذا الفتي؟ فقال: هذا موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) فقلت: قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلاّ لمثل هذا السيد، ولقد نظم بعض المتقدّمين واقعة شقيق معه في أبيات طويلة اقتصرت علي ذكر بعضها فقال:



سل شقيق البلخي عنه وما

عا ين منه وما الذي كان أبصرْ



قال لما حججت عاينت شخصاً

شاحب اللون ناحل الجسم أسمرْ



سائراً وحده وليس له زا د

فمازلت دائما اتفكرْ



وتوهمت أنه يسأل الناسّ

ولم أدر أنه الحج الأكبر



ثم عاينته ونحن نزول

دون فيدٍ عَلي الكثيب الأحمر



يضع الرمل في الإناء ويشرب

هْ فناديته وعقلي محير



أسقني شربة فناولني من

هُ فعاينته سويقاً وسكّر



فسألت الحجيج من يك هذا؟

قيل هذا الإمام موسي بن جعفر [6] .




پاورقي

[1] بحار الانوار: (ج 2، ص 174).

[2] المصدر: (ص 64، 65).

[3] المصدر: (ص 70) (93/).

[4] المصدر: (ص 76).

[5] المصدر: (ص 58).

[6] المصدر: (ص 80 - 82).