بازگشت

عبادته وزهده


من أبرز سمات القيادات الرسالية الزهد، والتقشف والإجتهاد في التبتل إلي الله تعالي، وقد كان عصر الإمام الكاظم (ع) معروفاً بالعصر الذهبي، وكانت بيوت السلطة العباسية تفيض بالثروات الطائلة، وتشهد حفلات المجون، كالتي نقرأ بعضها في قصص ألف ليلة وليلة، وفي ذات الوقت ينقل إبراهيم بن عبد الحميد ويقول: (دخلت علي أبي الحسن الأول (ع) في بيته الذي كان يصلي فيه فإذا ليس في البيت شيء إلاّ حضفة [1] وسيف معلق ومصحف) [2] .

وكان (ع) يسعي إلي بيت الله الحرام ماشياً لشدة تواضعه لله، واجتهاده في العبادة، وإذا عرفنا المسافة بين المدينة ومكة التي تقارب (400) كليو متر وطبيعة الصحراء في أرض الحجاز، عرفنا مدي تحمل الإمام للصعاب في سبيل الله.

يقول علي بن جعفر (ع): (خرجنا مع أخي موسي بن جعفر (ع) في أربع عُمَرٍ يمشي فيها إلي مكة بعياله وأهله، واحدة منهن مشي فيها ستة وعشرين يوماً، وأخري خمسة وعشرين يوماً، وأخري أربعة وعشرين يوماً، وأخري واحداً وعشرين يوماً) [3] .

أما شدة اجتهاده في الصلاة وهي قرة عين المؤمنين وملتقي الحبيب مع الحبيب فيقول عنها الحديث التالي:

“ روي أنه كان يصلي نوافل الليل، ويصلها بصلاة الصبح، ثم يعقب حتي تطلع الشمس، ويخر لله ساجداً فلا يرفع رأسه من السجدة والتحميد حتي يقرب زوال الشمس، وكان يدعو كثيراً فيقول: اللهم إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب، ويكرر ذلك، وكان من دعائه (ع) عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك، وكان يبكي من خشية الله حتي تخضلّ لحيته بالدموع، وكان أوصل الناس لأهله ورحمه، وكان يفتقد فقراء المدينة “ [4] .

والواقع أن اجتهاد الإمام في عبادة ربه والتبتل إليه بالصلوات والأدعية، هو السبب الذي بعثه الله به مقاما محموداً. وهو الذي أعطاه قدرة تحمل أعباء الرسالة التي نهض بها وضحّي بما لديه في سبيل تبليغها، وكانت صلواته أعظم مؤنس له في ظلِّ ظُلم الطغاة، فهذا أحمد بن عبد الله ينقل عن أبيه فيقول: (دخلت علي الفضل بن الربيع وهو علي سطح فقال لي: إشرف علي هذا البيت وانظر ما تري؟ فقلت: ثوباً مطروحا فقال: أنظر حسناً فتأملت فقلت: رجل ساجد، فقال لي: تعرفه؟ هو موسي بن جعفر أتفَّقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلاّ علي هذه الحالة، إنه يصلي الفجر فيعقب إلي أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة، فلا يزال ساجداً حتي تزول الشمس، وقد وكّل من يترصّد أوقات الصلاة، فإذا أخبره وثب يصلّي من غير تجديد وضوء، وهو دأبه فإذا صلّي العتمة أفطر، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد فلا يزال يصلي في جوف الليل حتي يطلع الفجر، وقال بعض عيونه: كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه:

“ اللهم إنك تعلم أنني كنت أسألك أن تفرِّغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد “ [5] .

أما قراءته للقرآن، فيحدثنا عنها حفص ويقول: (ما رأيت أحداّ أشد خوفاً علي نفسه من موسي بن جعفر (ع) ولا أرجي للناس منه، وكانت قراءته حزناً، فإذا قرأ فكأنه يخاطب إنساناً [6] .

لقد علّمه القرآن الكريم أسمي القيم، ومن أبرزها الإشفاق علي نفسه، والسعي الدائب لتزكيتها وخلاصها من غضب الرب، وإصلاحها لتكون موضع محبة الخالق ورضوانه.

بينما كان يرجو للناس كل خير، ولم يكن رجاؤه مجرداً عن العمل، بل كان (ع) يتقرب إلي الله بالإحسان إلي الناس، فقد كان يتفقد فقراء أهل البيت فيحمل إليهم في الليل العين والورق وغير ذلك، فيوصله إليهم وهم لا يعلمون من أي جهة هو) [7] .


پاورقي

[1] الحضفة: الحيكة تعمل من الخوص للتمر، وأيضاً يقال للثوب الغليظ جداً.

[2] المصدر: (ص 100).

[3] المصدر.

[4] المصدر: (ص 102).

[5] المصدر: (ص 107، 108).

[6] المصدر: (ص 111).

[7] المصدر: (ص 108).