بازگشت

جوده وكرمه


بالتوكل علي الله واليقين يعظم ثواب المحسنين عنده، والثقة بأنه الرزاق ذو القوة المتين. يعطي المؤمن عطاءً لا يخشي الفقر، وأئمة الهدي هم المثل الأسمي في الكرم والجود، فهذا الإمام موسي بن جعفر (ع) مع ما كان يعيشه من ظروف قاسية، اشتهر بهذه الصفة في الآفاق.

جاء في التاريخ رواية مأثورة عن محمد بن عبد الله البكري، قال:

(قدمت المدينة أطلب ديناً فأعياني، فقلت لو ذهبت إلي أبي الحسن (ع) فشكوت إليه، فأتيته بنقمي في ضيعته، فخرج إليّ ومعه غلام ومعه منسف فيه قديد مجزع، ليس معه غيره، فأكل فأكلت معه، ثم سألني عن حاجتي فذكرت له قصَّتي، فدخل ولم يقم إلاّ يسيراً حتي خرج إليّ فقال لغلامه: إذهب ثم مدّ يده إليّ فناولني صرة فيها ثلاثمائة دينار، ثم قام فولي فقمت فركبت دابّتي وانصرفت) [1] .

وروي عن أبي الفرج في مقاتل الطالبيين عن يحيي بن الحسن قال: (كان موسي بن جعفر (ع) إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرة دنانير، وكانت صراره ما بين الثلاثمائة إلي المائتين دينار، فكانت صرار موسي مثلاً) [2] .

وجاء في حكاية تاريخية طريفة أن المنصور العباسي تقدم إلي موسي بن جعفر (ع) بالجلوس للتهنئة في يوم النيروز، وقبض ما يحمل إليه فقال (ع):

“ إني قد فتشت الأخبار عن جدي رسول الله (ص) فلم أجد لهذا العيد خبراً، وإنه سنة للفرس ومحاها الإسلام، ومعاذ الله أن نحيي ما محاه الإسلام “.

فقال المنصور: إنما نفعل هذا سياسة للجند، فسألتك بالله العظيم إلاّ جلست، فجلس ودخلت عليه الملوك والأمراء والأجناد يهنئونه، ويحملون إليه الهدايا والتحف، وعلي رأسه خادم المنصور يحصي ما يحمل، فدخل في آخر الناس رجل شيخ كبير السن فقال له: يا ابن بنت رسول الله إني رجل صعلوك لا مال لي أتحفك ولكن أتحفك بثلاثة أبيات قالها جدّي في جدّك الحسين بن علي (ع):



عجبت لمصقول علاك فرنده

يوم الهياج وقد علاك غبار



ولأسهم نفذتك دون حرائر

يدعون جدك والدموع غزار



ألا تغضغضت السَّهام وعاقها

عن جسمك الإجلال والإكبار



قال: قُبلت هديتك، إجلس بارك الله فيك، ورفع رأسه إلي الخادم وقال: إمضي إلي أمير المؤمنين وعرّفه بهذا المال وما يصنع به، فمضي الخادم وعاد وهو يقول: كلّها هبة منّي له، يفعل به ما أراد، فقال موسي للشيخ: إقبض جميع هذا المال فهو هبة مني لك) [3] .

وكان يلقي بكرمه عدوه فإذا به يصبح ولياً حميماً، فهذا شخص من أولاد الخليفة الثاني كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسي (ع) ويسبه إذا رآه، ويشتم عليّاً، فقال له بعض حاشيته يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم، وسأل عن العمري فذكر أنه يزرع ناحية من نواحي المدينة، فركب إليه، فوجده في مزرعة له، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري لا توطيء زرعنا، فتوطأه (ع) بالحمار حتي وصل إليه ونزل وجلس عنده، وباسطه وضاحكه، وقال له: كم غرمت علي زرعك هذا؟ قال: مائة دينار، قال: فكم ترجو أن تصيب؟ قال: لست أعلم الغيب، قال له: إنما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه؟ قال: أرجو أن يجيء مائتا دينار.

قال: فأخرج له أبو الحسن (ع) صرة فيها ثلاثمائة دينار، وقال هذا زرعك علي حاله، والله يرزقك فيه ما ترجو، قال: فقام العمري فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه أبو الحسن وانصرف، قال: وراح إلي المسجد فوجد العمري جالساً فلما نظر إليه قال: الله أعلم حيث يجعل رسالاته قال: فوثب أصحابه إليه فقالوا له: ما قضيتك؟ قد كنت تقول غير هذا، قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن (ع) فخاصموه وخاصمهم، فلما رجع أبو الحسن إلي داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري: إيَّما كان خيراً ما أردتم أم ما أردت؟ إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكُفيت به شره [4] .


پاورقي

[1] المصدر: (ص 102).

[2] مقاتل الطالبيين (ص 104).

[3] المصدر: (ص 108).

[4] المصدر: (ج 56، ص 102 - 103).