بازگشت

محنته وشهادته


بعد محنة أبي عبد الله الحسين (ع)، وأكثر من سائر أئمة الهدي من أهل بيت الرسول، كانت محنة أبي إبراهيم موسي بن جعفر (ع) شديدة وأليمة.

لقد كان الرّشيد يترصده ولا يقدر عليه، ولعله كان يخشي من بعث جيش إليه خوف انقلابه وتحوله إلي صفِّه، وكانت السرّية التي عمل بها الرساليون تجعل السلطات لا تثق بأقرب الناس إليهم، فهذا علي بن يقطين وزير الرّشيد، وذاك وزيره الآخر جعفر بن محمد بن الأشعث شيعيان، كما كان من بين قيادات جيشه، وأبرز ولاته علي الأمصار من يخفي ولائه لآل البيت (ع)، فلذلك قرر الذهاب بنفسه إلي المدينة، لإلقاء القبض عليه، وأخذ معه قوّاته الخاصة، بالإضافة إلي جيش من الشعراء، وعلماء السلاطين، والمستشارين و. و. كما أنه حمل معه الملايين مما سرقه من المحرومين، فقسّمها بين الناس لشراء سكوتهم.

وخص منهم رؤساء القبائل ووجوه وأعيان المعارضة.

هكذا ذهب الرّشيد إلي المدينة ليلقي القبض علي أعظم معارضي سلطانه الغاصب، لننظر ما فعل:

أولاّ: جلس عدة أيام يستقبل الناس ويأمر لهم بالصِّلات السخية، حتي أشبع بطون المعارضين، ممن كانت معارضتهم للسلطة لأسباب شخصية ومصالح خاصة.

ثانياً: بعث في البلد من يبث الدعايات ضد أعداء السلطان، وأغري الشعراء وعملاء السلطة من أدعياء الدين بمدح السلطان وإصدار الفتاوي بحرمة محاربته.

ثالثاً: استعرض قوّته لأهل المدينة لكي لا يفكر أحد بمقاومته في هذا الوقت بالذات.

رابعاً: وحينما أكمل استعداده قام شخصياً بتطبيق البند الأخير من خطته الإرهابية، فدخل مسجد رسول الله، ربما في وقت يجتمع الناس لأداء الفريضة، ولا يتخلف عنهم - بالطبع - الإمام موسي بن جعفر (ع).

ثم تقدم إلي قبر الرسول وسلم عليه: وقال: السلام عليك يا رسول الله، يا ابن عم.

وكان هدفه إثبات شرعية خلافته لرسول الله، لتكون سبباً وجيهاً لاعتقال الإمام (ع)، ولكن الإمام فوّت عليه هذه الفرصة، وشق الصفوف حتي تقدمها وتوجه إلي القبر الشريف وقال في ذهول الجميع: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا جدّاه.

فلإن كان رسول الله ابن عمك يا سلطان الجور، وإنّك تدّعي شرعية سلطتك بانتمائك النسبي لرسول الله (ص)، فإنه أقرب إليّ، فهو جدي وأنا أحقَّ بخلافته منك.

ولكن الرّشيد استدرك الموقف وقال وهو يبرّر عزمه علي اعتقال الإمام بالقول:

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني أعتذر إليك من أمر عزمت عليه، وإني أريد أن آخذ موسي بن جعفر فأحبسه، لأني قد خشيت أن يلقي بين أمتك حرباً تسفك فيها دماؤهم.

فلما كان اليوم التالي أرسل إليه الفضل بن الربيع وهو قائم يصلي في مقام رسول الله، فأمر بالقبض عليه وحبسه [1] .

وأخرج من داره بغلان عليهما قبتان مغطاتان هو في أحدهما، ووجّه مع كل واحدة منهما خيلاً فأخذ بواحدة علي طريق البصرة، والأخري علي طريق الكوفة، ليعمي علي الناس امره، وكان الإمام في القبة التي مضت علي البصرة، وأمر الرسول أن يسلم إلي عيسي بن جعفر بن المنصور، وكان والياً يومئذ علي البصرة فمضي به فحبسه عنده سنة.

ثم كتب إلي الرّشيد أن خذه منّي، وسلّمه إلي من شئت، وإلاّ خلّيت سبيله، فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجة، فما أقدر علي ذلك، حتي أني لأتسمّع عليه إذا دعا لعله يدعو عليّ أو عليك فما أسمعه يدعو إلاّ لنفسه، يسأله الرحمة والمغفرة، فوجّه من تسلمه منه، وحبسه عند الفضل بن الربيع ببغداد، فبقي عنده مدة طويلة، وأراده الرّشيد علي شيء من أمره فأبي، فكتب بتسليمه إلي الفضل بن يحيي، فتسلّمه منه وأراد ذلك منه فلم يفعل، وبلغه أنه عنده في رفاهية وسعة، وهو حينئذ بالرقة.

فأنفذ مسروراً الخادم إلي بغداد علي البريد، وامره أن يدخل من فوره إلي موسي بن جعفر (ع) فيعرف خبره، فإن كان الأمر علي ما بلغه أوصل كتاباً منه إلي العباس بن محمد وأمره بامتثاله، وأوصل منه كتاباً آخر إلي السندي بن شاهك يأمره بطاعة العباس [2] .

وتمضي الرواية التاريخية لتقول: وبلغ يحيي بن خالد فركب إلي الرّشيد ودخل من غير الباب الذي يدخل الناس منه، حتي جاءه من خلفه وهو لا يشعر، ثم قال: التفت إليّ يا أمير المؤمنين فأصغي إليه فزعاً، فقال له: إن الفضل حدث وأنا أكفيك ما تريد، فانطلق وجهه وسرّ وأقبل علي الناس فقال: إن الفضل كان عصاني في شيء فلعنته وقد تاب وأناب إلي طاعتي فتولوه، فقالوا له: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت وقد توليناه. ثم خرج يحيي بن خالد بنفسه علي البريد حتي أتي بغداد فماج الناس وأرجفوا بكل شيء، فأظهر أنه ورد لتعديل السواد، والنظر في أمر العمّال وتشاغل ببعض ذلك، ودعا السندي فأمره فيه بامره، فامتثله وسأل موسي (ع) السندي عند وفاته أن يحضره مولي له ينزل عند دار العبّاس بن محمد في أصحاب القصب ليغسله، ففعل ذلك، قال: وسألته أن يأذن لي أن أكفّنه فأبي وقال:

(إنا أهل البيت مهور نسائنا وحجّ صرورتنا، وأكفان موتانا من طاهر أموالنا، وعندي كفني).

فلما مات أدخل عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد وفيهم الهيثم بن عدي وغيره فنظروا إليه ولا أثر به، وشهدوا علي ذلك وأخرج فوضع علي الجسر ببغداد، ونودي: هذا موسي بن جعفر قد مات فانظروا إليه، فجعل الناس يتفرّسون في وجهه وهو (ع) ميت.

قال: وحدّثني رجل من بعض الطالبيّين أنه نودي عليه: هذا موسي بن جعفر الذي تَزعم الرافضة أنه لا يموت، فانظروا إليه، فنظروا إليه.

قالوا: وحمل فدفن في مقابر قريش، فوقع قبره، إلي جانب رجل من النوفلِّيين يقال له عيسي بن عبد الله [3] .

وتنقل الروايات التاريخية: أن الإمام (ع) كان يتصل بشيعته وأهل دعوته من السجون التي يتناقل فيها، ويأمرهم بأمره، كما انه كان يجيب عن مسائلهم السياسية، والفقهية.

وقد نتساءل: كيف كان (ع) يتصل بهم، لعله بطرق غيبية، ولكن أحاديث كثيرة تبيّن لنا أن أكثر من سجن عندهم الإمام (ع) قالوا بإمامته، بالرغم من أن السلطة كانت تختار سجّانه من بين أغلظ الناس وأكثرهم ولاءً لها، لما كانوا يرونه فيه من شدة الإجتهاد في العبادة، وغزارة العلم ومكارم الأخلاق، ولما كانوا يرونه منه من كرامات.

وفي كتاب الأنوار قال العامري: إن هارون الرشيد أنفذ إلي موسي بن جعفر جارية خصيفة، لها جمال ووضاءة لتخدمه في السجن، فقال قل له: [بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ] (النَّمْل/36).

لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها، قال: فاستطار هارون غضباً وقال: إرجع إليه وقل له: ليس برضاك حبسناك ولا برضاك أخذناك، واترك الجارية عنده وانصرف، قال: فمضي ورجع، ثم قام هارون عن مجلسه وأنفذ الخادم إليه ليستفحص عن حالها فرآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها تقول: قدوس سبحانك سبحانك.

فقال هارون: سحرها والله موسي بن جعفر بسحره، عليّ بها، فأتي بها وهي ترعد شاخصة نحو السماء بصرها فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني الشأن البديع، إنّي كنت عنده واقفة وهو قائم يصلي ليله ونهاره، فلما انصرف عن صلاته بوجهه وهو يسبح الله ويقدّسه قلت: يا سيدي هل لك حاجة أعطيكها؟ قال: وما حاجتي إليك؟ قلت: إني أدخلت عليك لحوائجك قال: فما بال هؤلاء؟ قالت: فالتفت فإذا روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري، ولا أولها من آخرها، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج، وعليها وصفاء ووصائف لم أرَ مثل وجوههم حسناً، ولا مثل لباسهم لباساً، عليهم الحرير الأخضر، والأكاليل والدرّ والياقوت، وفي أيديهم الأباريق والمناديل ومن كل الطعام، فخررت ساجدة حتي أقامني هذا الخادم فرأيت نفسي حيث كنت.

قال: فقال هارون: يا خبيثة لعلك سجدت فنمت فرأيت هذا في

منامك؟ قالت: لا والله يا سيدي إلاّ قبل سجودي رأيت فسجدت من أجل ذلك، فقال الرّشيد: إقبض هذه الخبيثة إليك، فلا يسمع هذا منها أحد، فأقبلت في الصلاة، فإذا قيل لها في ذلك قالت: هكذا رأيت العبد الصالح (ع)، فسئلت عن قولها قالت: إني لما عاينت من الأمر نادتني الجواري يا فلانة ابعدي عن العبد الصالح، حتي ندخل عليه فنحن له دونك، فما زالت كذلك حتي ماتت، وذلك قبل موت موسي بأيام يسيرة.

هذه هي كرامة الإمام (ع) علي الله، وتلك هي عاقبة الرّشيد الظَّالم الطَّاغي.

نسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا ممن يتولي أوليائه، ويتبرأ من أعدائه، ويسير علي نهجهم أئمة الهدي من آل محمد (صلي الله عليه وعليهم اجمعين) والحمد لله رب العالمين.


پاورقي

[1] المصدر: (ص 213).

[2] المصدر: (ص 233).

[3] المصدر: (ص 234) نقلاً عن كتاب الغيبة للطوسي: (ص 22).