بازگشت

مقدمة الطبعة الثانية


بسم الله الرحمن الرحيم

ان الكاتب مهما أوتي من لباقة و براعة، و اطلاع وافر في علم النفس و الاجتماع و غيرهما مما يستطيع به تحليل الواقع النفسي، و الكشف عن ابعاد الشخصية، واعطاء صورة حية عن عناصر تربيتها و سلوكها... فانه مهما بلغ من التفوق في هذا المجال فلا يستطيع بصورة جازمة أن يلم بواقع أئمة أهل البيت (ع) و يكشف عن ابعاد حياتهم، أو يحلل نزعاتهم، و يحيط بما لهم من ظواهر ذاتية.

لا نقول: ذلك مدفوعين بدافع الغلو أو الافراط في الحب، و انما الواقع يمليه علينا، و يقرنا عليه ما أثر عنهم من النزعات الفذة المتميزة في سلوكهم الشخصي و الاجتماعي و الذي بلغوا به أعلي مستويات الانسانية... فهذه ظاهرة من نزعات الامام موسي عليه السلام و هي الصبر علي المحن و الخطوب فقد بلغ بها مبلغا يستحيل علي الكاتب ان يكشف واقعها أو يلم بحقيقتها.. فقد اعتقل هذا الامام العظيم في ظلمات السجون حفنة من السنين، و قد حجبته السلطة عن جميع الناس و لم تسمح لاحد بمقابلته، فلم يؤثر عنه انه ضجر أو سأم أو حن الي الأهل و الوطن، و انما اتخذ ذلك من ضروب النعم الكبري التي تستحق الشكر لانه كان في سبيل الدفاع عن الدين، و حماية مبادئه، فعكف و هو في السجن علي عبادة الله صائما نهاره قائما ليله، و هو جذلان مسرور بهذه المناجاة، و بهذا الاتصال الروحي بالله تعالي.



[ صفحه 6]



بأي تعليل وثيق يعلل به هذا الصبر؟

انه لم يكن هناك تعليل منطقي له سوي الايمان العميق بالله الذي بلغ به الامام أسمي مراتبه.

و ظاهرة أخري من نزعاته الكريمة و هي الصمود في وجه الظلم و الطغيان و انطلاقه في ميادين الجهاد المقدس، و هو يحمل لواء المعارضة علي حكام عصره الذين استباحوا جميع ما حرم الله، و استبدوا بأرزاق الأمة و حقوقها و استهانوا بكرامة الاسلام.. فلم يؤثر عن الكثيرين منهم انهم قاموا بعمل ايجابي في صالح المجتمع الاسلامي أو ساهموا في بناء الحركة الفكرية و الاجتماعية أو ساروا في سياستهم علي ضوء ما يهدف اليه الاسلام في بعث التطور الاقتصادي و الثقافي و الاداري لجميع شعوب الأرض.

ان فلسفة الحكم عند اولئك الحكام كانت تهدف الي الاثرة و الاستغلال و اشباع الرغبات اما مصلحة الأمة و رفع مستواها الفكري و الاجتماعي فلم يكن يعنون به بقليل و لا بكثير، قد بنوا حكمهم علي الظلم و الجور و الاستبداد، و ارغام الناس علي ما يكرهون... و من ثم كانت محنة أهل البيت (ع) محنة شاقة و عسيرة فانهم بحكم دورهم القيادي للامة مسؤولين عن رعايتها و صيانتها و انقاذها مما ألم بها من المحن و الخطوب، فأعلنوا معارضتهم الايجابية تارة و السلبية أخري لسياسة ملوك عصرهم، و استهدفوا بذلك جميع الوان الظلم و الاضطهاد و القهر حتي انتهت حياتهم الكريمة و هم ما بين مقتول و مسموم، كل ذلك من أجل مصلحة المسلمين، و الانطلاق بهم الي سياسة العدل الخالص و الحق المحق المحض، و تطبيق احكام القرآن علي واقع الحياة.

اما مظاهر ذلك الصمود الفذ عند الامام موسي (ع) فقد تمثل باصراره البالغ علي شجبه لسياسة هارون، و عدم الاعتراف بشرعية خلافته، و قد أصر علي هذا الموقف المشرف حتي لفظ انفاسه الأخيرة في السجن، و قد



[ صفحه 7]



حاول يحيي البرمكي رئيس حكومة هارون أن يتوسط في أمر الامام، و يخرجه من السجن، فعرض علي الامام أن يعتذر لهارون و يطلب منه العفو حتي يخلي عن سبيله، و ينعم عليه، فأصر (ع) علي الامتناع و عدم الاستجابة له

لقد تميز موقف الامام موسي (ع) بالشدة و الصرامة مع هارون و غيره من ملوك عصره فلم يصانع أي أحد منهم، و لو سايرهم لأغدقوا عليه بالأموال و الثراء العريض، و ما عاني تلك الأهوال الشديدة، و المحن الشاقة ولكنه (ع) آثر رضا الله و طاعته علي كل شي ء، و أبي الا أن يساير موكب الحق، و لا يشذ عما جاء به الاسلام من مقارعة الظلم و مناهضة أئمة الجور و الطغيان.

و علي أي حال فقد عرض هذا الكتاب بصورة موضوعية و شاملة لدراسة نزعات الامام و سائر أحواله التي امتدت علي هامة التأريخ الاسلامي بالاشراق والوعي و البطولات.. راجيا أن اكون قد ساهمت بهذا الكتاب في خدمة هذه الأمة، و خدمة علم من أعلامها النابهين انه تعالي ولي القصد و التوفيق.

النجف الأشرف

باقر شريف القرشي

29 / ربيع / 2 / 1390 ه



[ صفحه 9]