شربه للخمر
و اندفع هارون الي شرب الخمر و الادمان عليها، و كان يدعو خواص جواريه اذا أراد الشراب [1] و ربما كان يتولي سقاية الشراب بنفسه لندمائه
فقد حدث حماد بن اسحاق عن أبيه قال: أرسل الي الرشيد ذات ليلة، فدخلت عليه فاذا هو جالس و بين يديه جارية عليها قميص مورد و سراويل موردة و قناع مورد كأنها ياقوتة، فلما رآني قال لي: اجلس، فجاست ثم قال لي: غن فغنيت:
تشكي الكميت الجري لما جهدته
و بين لو يسطيع أن يتكلما
فقال: لمن هذا اللحن؟ فقلت: لي يا أميرالمؤمنين، فقال: هات لحن ابن سريج، فغنيته اياه فطرب و شرب رطلا و سقي الجارية رطلا، و سقاني رطلا، ثم قال: غن، فغنيته:
هاج شوقي بعدما
شيب أصداغي بروق
موهنا و البرق من ما
ذا الهوي قدما يشوق
فقال: لمن هذا الصوت؟ فقلت: لي فقال: قد كنت سمعت فيه لحنا آخر، فقلت: نعم، لحن ابن محرز، فقال: هاته فغنيته فطرب، و شرب رطلا، ثم سقي الجارية رطلا، و سقاني رطلا ثم قال: غن فغنيته:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
و ان كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
فقال لي: ليس هذا اللحن أريد، غن رمل ابن سريج فغنيته، و شرب رطلا و سقي الجارية رطلا، ثم طلب من اسحاق أن يحدثه فحدثه عن أيام
[ صفحه 68]
العرب و أخبارها [2] و كان يهدي لبعض أصحابه كؤوس الخمر مملوءة [3] و يهدي اليه كذلك فقد روي ربق قال: كنت بين يدي الرشيد و عنده اخوه منصور و هما يشربان، فدخلت عليه (خلوب) جارية علية و معها كأسان مملوئتان و تحيتان و معها غلام يحمل عودا فغنتها الجارية و الكأسان في أيديهما و كان غناؤها:
حيا كما الله خليليا
ان ميتا كنت و ان حيا
ان قلت خيرا فخير لكم
أو قلت غيا فغيا
فشربا الخمرة و فضا الرقعة فاذا فيها: «صنعت يا سيدي أختكما هذا اللحن اليوم، و ألقته علي الجواري، و اصطبحت فبعثت لكما به، و بعثت من شرابي اليكما و من تحياتي و أحذق جواري لتغنيكما» [4] ، و سار أولاده علي ذلك فكان الأمين لا ينقطع عن الشراب، و قد وصفه وزيره الفضل ابن الربيع فقال: قد ألهاه كأسه و شغله قدحه فهو يجري في لهوه و الأيام تسرع في هلاكه، و كان يشرب بأقداح من بلور مرصعة بالجوهر [5] و كان المأمون يشرب في أول أيامه الثلاثاء و الجمعة، ثم انه أدمن علي الشراب عند خروجه الي الشام الي ان توفي [6] .
و لما رأي الناس مليكهم هارون مدمنا علي شرب الخمر أدمنوا كذلك و انتشرت الخمرة عند أغلب الاوساط حتي في بيوت الفقراء فكانت لا تخلو منها، و تناولها الشعراء بالوصف الرائع بما لم توصف به من قبل حتي قدسها
[ صفحه 69]
أبونؤاس بشعره فقال:
اثن علي الخمر بآلائها
و سمها أحسن أسمائها
و علق علي هذا البيت الدكتور طه حسين بقوله: «أليس الشطر الأول منه تسبيحا للخمر!؟، أليس الشطر الثاني منه تقديسا للخمر؟ أليس في هذا البيت علي سهولته و برائته من ألفاظ المجون أشد الوان المجون؟ اليس فيه الاستهزاء بالدين و السخرية منه، اليس يذكرك القرآن، أليس يذكرك قول الله تعالي: «و لله الأسماء الحسني فادعوه بها» [7] و قد جاهر ابونؤاس بشربها مع اقراره بحرمتها فقال:
فان قالوا حرام قل حرام
ولكن اللذاذة في الحرام
و قال:
ألا فاسقني خمرا و قل لي هي الخمر
و لا تسقني سرا اذ أمكن الجهر
و لم يندفع أبونؤاس الي الجهر بشربها و اعلان وصفها الا لأنه رأي السلطة الحاكمة قد تهتكت، و تخلت عن المبادي ء الاسلامية التي حرمتها، فقد جاء تحريمها صريحا في القرآن الكريم قال تعالي: «انما الخمر و الميسر و الانصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون انما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر و يصدكم عن ذكر الله و عن الصلاة فهل انتم منتهون»، ولكن هارون و غيره من ملوك العباسيين لم يعنون بتحريم الاسلام له، فعمدوا الي شربها في وضح النهار و في غلس الليل، و من المؤسف أن يعد هؤلاء الخلعاء الماجنون من أئمة المسلمين و من كبار قادتهم ثم يلتمس المعاذير لما اقترفوه من عظيم الاثم و المنكر، و قد بالغ الجومرد في دفاعه عن هارون فنفي عنه شرب الخمر و قال انه ما شرب الا النبيذ و ليس ذلك محرما في الاسلام [8] ان هذه التعاليل
[ صفحه 70]
لا تدل الا علي روح العصبية التي لا تمثل اي واقع علمي، فقد أجمع المؤرخون علي شربه للخمر و ادمانة عليها.
پاورقي
[1] التاج: ص 37.
[2] الاغاني: 5 / 126 - 127.
[3] الأغاني.
[4] الاغاني: 9 / 170 - 171.
[5] الطبري: 10 / 215.
[6] التاج: ص 153.
[7] حديث الاربعاء: 2 / 109.
[8] هارون الرشيد: 1 / 267.