بازگشت

الهبات للمغنين


و أسرف هارون أي اسراف في هباته للمغنين، فمنحهم الثراء العريض و أغدق عليهم الأموال الطائلة التي كان الواجب أن تصرف علي صالح



[ صفحه 32]



المسلمين لا علي ما يفسد الاخلاق، و يثير الشهوات، و قد ذكر المؤرخون بوادر كثيرة من هباته لهم ما لو جمعت لكانت كتابا ضخما، و نذكر بعضها للتدليل علي تبديده لثروات الامة و هي:

1 - أنشده أبوالعتاهية هذه الأبيات:



بأبي من كان في قلبي له

مرة حب قليل فسرق



يا بني العباس فيكم ملك

شعب الاحسان منه تفترق



انما هارون خير كله

مات كل الشر مذ يوم خلق



و غناه ابراهيم الموصلي بها فأعطي كل واحد منهما مائة الف درهم و مائة ثوب [1] .

2 - و حدث مغنيه اسحاق الموصلي قال: خرجت مع الرشيد الي الحيرة فساعة نزل بها دعا بالغداء فتغدي ثم نام فاغتنمت قائلته، فذهبت فركبت أدور في ظهر الحيرة فنظرت الي بستان فقصدته فاذا علي بابه شاب حسن الوجه فاستأذنته في الدخول فأذن لي فدخلت فاذا جنة من الجنان في أحسن تربة، و أغزرها ماءا فخرجت فقلت له: لمن هذا البستان؟ فقال لبعض الاشاعثة، فقلت أيباع؟ فقال. نعم و هو علي سوم، فقلت: كم بلغ؟ فقال أربعة عشر الف دينار، قلت: و ما يسمي هذا الموضع؟ قال: شماري، فقلت:



جنان شماري ليس مثلك منظر

لدي رمد أعيا عليه طبيب



ترابك كافور و نورك زهرة

لها ارج بعد الهد و يطيب



و لما جلس الرشيد، و أمر بالغناء غنيته اياه، فقال: ويلك! و اين شماري؟ فأخبرته القصة، فأمر لي بأربعة عشر الف دينار فاشتريتها [2] .



[ صفحه 33]



3 - غناه يحيي المكي فأطربه فقال هارون: قم يا يحيي فخذ ما في ذلك البيت، فظن يحيي أن فيه فرشا و ثيابا، فاذا فيه أكياس فيها عين و ورق، فحملت بين يديه فكانت خمسين الف درهم مع قيمة العين [3] .

4 - غناه يحيي بهذا البيت:



متي تلتقي الألاف و العيس كلها

تصعدن من واد هبطن الي واد



و أخذ هارون يتناول اقداح المسكر الي ان أمسي، و أمر له بعشرة آلاف درهم [4] .

5 - غضب الرشيد علي ابراهيم الموصلي فحبسه، و جلس يوما فتذكر حسن غنائه فقال: لو كان الموصلي حاضرا لتم أمرنا و سرورنا، فقال له بعض جلسائه: يا أميرالمؤمنين نجي ء به فما له كبير ذنب فبعث خلفه، و لما مثل بين يديه أمره بالغناء فغناه بهذا البيت:



تضوع مسكا بطن نعمان ان مشت

به زينب في نسوة خفرات



فاهتز الرشيد و أمر بأن تحل عنه القيود، و يغطي بالخلع، و أمر له بثلاثين الف درهم [5] .

6 - غناه ابراهيم الموصلي صوتا من مختارات صوته فطرب طربا ما عليه من مزيد، و استعاده عامة ليلته، و قال:

- ما رأيت صوتا يجمع السخاء و الطرب وجودة الصنعة مثل هذا الصوت؟ فقال له ابراهيم: لو وهب لك انسان مائتي الف درهم أكنت أسر بها أو بهذا الصوت؟

قال الرشيد: و الله لأنا أسر بهذا الصوت مني بألفي ألف.



[ صفحه 34]



قال ابراهيم: لم لا تهب لي مائتي الف؟

فأمر له الرشيد بالوقت بمائتي الف درهم [6] .

7 - غناه دحمان الاشقر بهذه الابيات:



اذا نحن أولجنا و أنت أمامنا

كفي لمطايانا برؤياك هاديا



ذكرتك بالدير يوما فأشرقت

بنات الهوي حتي بلغن التراقيا



اذا ما طواك الدهر يا أم مالك

فشأن المنايا القاضيات و شأنيا



فطرب و استعاد الصوت منه مرات، ثم قال له:

«تمن علي»

قال دحمان: أتمني أن تهبني «الهني ء و المري ء» و هما قريتان غلتهما أربعون الف دينار، فأعطاه اياهما، فقيل له: يا أميرالمؤمنين ان هاتين الضيعتين من جلالتهما يجب أن لا يسمح بمثلهما، قال: لا سبيل لاسترداد ما أعطيت، ولكن احتالوا في شرائهما منه فاشتروهما بثمن كثير [7] .

8 - و جلس ليلة يتسامر مع ندمائه فغناه أحدهم بقول جرير:



ان الذين غدوا بلبك غادروا

و شلا بعينك لا يزال معينا



فطرب و أعجب بالابيات، و قال لجلسائه: من أجاز منكم هذه الابيات بمثلها فله عندي هذه البدرة، فحاولوا ذلك فلم يصنعوا شيئا، فقال له خادم علي رأسه: أنا بها لك يا اميرالمؤمنين، قال له: شأنك فذهب الي (الناطقي) و أخبره بالقصة فدخل علي (عنان) فأجازته



هيجت بالقول الذي قد قلته

داءا بقلبي ما يزال كمينا



قد أينعت ثمراته في طيها

و سقين من ماء الهوي فروينا



كذب الذين تقولوا يا سيدي

ان القلوب اذا هوين هوينا



[ صفحه 35]



و جاء بها الي الرشيد، فسأله عمن قالها فأخبره بالأمر فاشتري الجارية بثلاثين الف درهم و لم يبقها عنده سوي بضعة أيام ثم وهبها لأحد خاصته [8] .

هذه بعض البوادر التي ذكرها المؤرخون عن صلات هارون و منحه للمغنين الذين كانوا يمثلون العبث و المجون في عصرهم، و هي تخالف ما أثر عن الاسلام من حرمة الانفاق علي جميع الوسائل التي حرمها الله، كما انها تجافي الاقتصاد الاسلامي الذي الزم ولاة المسلمين و حكامهم بانفاق بيت المال علي صالح المسلمين، و تطورهم الاقتصادي، و العلمي، و تأسيس المشاريع الحيوية التي توجب ازدهار البلاد.

ان هذا الاسراف الفاحش كان تبديدا لثروات الامة، و شلا لحركتها الاقتصادية، و هو مما حرمه الاسلام.

و من بذخه و اسرافه بأموال المسلمين ما رواه ابوالفرج قال: اهديت الي الرشيد جارية في غاية الجمال و الكمال، فخلا معها يوما و أخرج كل قينة في داره، و اصطبح فكان جميع من حضره من جواريه المغنيات و الخدمة في الشراب زهاء الفي جارية في أحسن زي من كل نوع من أنواع الثياب و الجوهر، و اتصل الخبر بام جعفر فغلظ عليها ذلك.

فأرسلت الي علية تشكو اليها، فأرسلت اليها علية لا يهولنك هذا فوالله لأردنه اليك، فد عزمت أن أصنع شعرا، و أصوغ فيه لحنا، و أطرحه علي جواري، فلا تبق عندك جارية الا بعثت بها الي، و ألبسيهن ألوان الثياب ليأخذن الصوت مع جواري، ففعلت أم جعفر ما أمرتها به علية، فلما جاء وقت صلاة العصر لم يشعر الرشيد الا و علية قد خرجت من حجرتها، و ام جعفر من حجرتها معها زهاء الفي جارية من جواريها



[ صفحه 36]



و سائر جواري القصر، عليهن غرائب اللباس، و كلهن في لحن واحد هزج صنعته علية و هو:



منفصل عني و ما

قلبي عنه منفصل



يا قاطعي اليوم لمن

نويت بعدي ان تصل



فطرب الرشيد و قام علي رجليه حتي استقبل ام جعفر و علية و هو علي غاية السرور و قال: لم ار كاليوم قط. يا مسرور لا تبقين في بيت المال درهما الا نثرته فكان مبلغ ما نثره يومئذ ستة آلاف الف درهم، و ما سمع بمثل ذلك اليوم قط [9] .

ان هذا هو الاستهتار الفاحش بأموال المسلمين، و الخروج علي ارادة الاسلام و أحكامه التي حرمت ذلك.


پاورقي

[1] الاغاني 4 / 74 ط دار الكتب المصرية.

[2] الاغاني 5 / 174 - 175.

[3] الاغاني 6 / 187.

[4] الاغاني 6 / 185.

[5] الاغاني 6 / 205.

[6] التاج: ص 41.

[7] تأريخ الخلفاء: 116.

[8] العقد الفريد: (ج 3 ص 258).

[9] الاغاني 10 / 172 - 173.