بؤس و شقاء
كانت الاكثرية الساحقة في البلاد الاسلامية تعاني الفقر و الحرمان، و ترزح تحت كابوس ثقيل من الظلم و البؤس، فالاموال قد تكدست عند طبقة خاصة من المغنين و الماجنين، و قد تفننوا في جميع أنواع الملذات، كما اسرفوا في الشهوات، اما عامة الناس فقد استولي عليها الجوع و الفقر بسبب ظلم الولاة و جورهم في اخذ الخراج، و قد صور اضطهاد المجتمع و سوء الحياة الاقتصادية الشاعر الاجتماعي الكبير ابوالعتاهية، بقصيدته التي وجهها الي عاهل بغداد، و قد جاء فيها:
من مبلغ عني الامام نصائحا متواليه
اني أري الأسعار أسعار الرعية غالية
و أري المكاسب نزرة واري الضرورة فاشيه
واري غموم الدهر رائحة تمر و غاديه
واري اليتامي في البيوت الخالية
من بين راج لم يزل يسمو اليك و راجيه
[ صفحه 160]
يشكون مجهدة بأصوات ضعاف عاليه
يرجون رفدك كي يروا مما لقوه العافيه
من مصيبات جوع تمسي و تصبح طاويه
من للبطون الجائعات و للجسوم العاريه
ألقيت أخبارا اليك من الرعية شافيه
هذه هي الحالة الاجتماعية السائدة في عصر هارون، الملايين من الشعب تعري و تجوع، بينما قد زخرت خزائن بغداد بأموال المواطنين، غير انها لم تكن الا للخلفاء و أبنائهم و وزرائهم و المقربين عندهم من الظلمة و الماجنين و المخنثين، و اما الذين لا يمرغون جباههم علي أعتاب الولاة فهم في فقر و بؤس، و لندع الحديث الي ابي العتاهية يصور لنا بوضوح ما يتمناه في ذلك العصر الذهبي الذي اصطلح المؤرخون علي تسميته بذلك، فيقول:
رغيف خبز يابس
تأكله في زاويه
و غرفة ضيقة
نفسك فيها خاليه
أو مسجد بمعزل
عن الوري في ناحيه
خير من الساعات في
في ء القصور العاليه
فهذه وصية
مخبرة بحاليه
طوبي لمن يسمعها
تلك لعمري كافيه
فاسمع لنصح مشفق
يدعي اباالعتاهيه
ان هذا اليأس و التشاؤم، و هذه الآلام التي رددها شاعر المجتمع العباسي كانت من نتائج فساد الحكم القائم و من مساوي ء سلطانهم، فقد قضت سياستهم الملتوية باشاعة الحرمان و الفقر بين الناس، و نشر الثروة عند طبقة خاصة أسرفت في التفنن في أنواع الملذات، فكانوا يزينون مجالسهم
[ صفحه 161]
بالفرش الفاخر و المتاع الثمين» و يلبسون الحيطان بالوشي و الديباج، و يغرسون الزهور في جنانهم حتي كانوا يجلبون لها الرياحين من بلاد الهند، و اخذوا يمعنون في ابتكار أساليب المتع، حتي اذا ماملوا من واحدة منها مالوا الي أخري و حتي (كان بعضهم يكاد ينطح العمود برأسه من حسن الغناء) كما يقول الاصفهاني. و كانت نتيجة ذلك انتشار الاعواز و الفقر عند طبقات الشعب.
و مهما يكن من أمر، فان الحكومات العباسية في العصر الاول قد نهبت أموال الشعوب الاسلامية و أشاعت الحاجة في البلاد و صرفت الخزينة المركزية علي الدعارة و اللهو و فساد الاخلاق، و قد ايقنت الجماهير بفساد تلك السلطات و عدم شرعية حكمها، كما آمنت بالعلويين و اعتقدت بأنهم دعاة العدل الاجتماعي و مأوي المظلومين و المضطهدين.