بازگشت

الفرق الاسلامية


و لعل من أهم ما حفل به العصر العباسي الاول من الأحداث، حدوث المذاهب الاسلامية، و تشعب المسلمين الي عدة طوائف، و فرق، قد اختلفت فيما بينها في أصول الدين و فروعه، و في كل شي ء.

و الشي ء المحقق ان السلطات العباسية في عصورها الاولي هي التي أحدثت المذاهب الاسلامية، و غذتها و نمتها، و حملت الناس بالقهر و القوة علي اعتناقها، و فيما نحسب ان السبب في ذلك ابعاد المسلمين عن أئمة اهل البيت الذين يمثلون واقع الاسلام و اتجاهاته الثورية في القضاء علي الظلم الاجتماعي، و الغبن الاجتماعي، و انقاذ الناس من الجور السياسي، و الاستبداد السياسي.

لقد اندفع العلويون في العصر الاموي الي ساحات الجهاد المقدس



[ صفحه 165]



لصيانة المجتمع من عنف الامويين و بطشهم، و اعادة المبادي ء الكريمة التي ينشدها الاسلام و يؤمن بضرورة توفيرها علي جميع المواطنين، و هي تتركز علي بسط العدالة و الحرية و المساواة، و نشر الدعة و الاستقرار، و الايمان الكامل بحق الفرد، و توفير اسباب معيشته و رزقه و أمنه، و اعتبر ذلك قاعدة اساسية لتطور المجتمع، و انطلاقه في آفاق من الحياة الحرة الكريمة.

من أجا هذه المبادي ء العليا هب العلويون الي ميادين الكفاح و النضال فلاقوا أعنف المشاكل و اكثرها صعوبة و تعقيدا، فتقطعت أوصالهم و اريقت دماؤهم، و ارتفعت اجسامهم علي اعواد المشانق، و قد آمنت الجماهير بأن العلويين حماة هذه الامة و قادتها و ولاة أمرها، و انه لا يمكن بأي حال ان تتوفر للمجتمع اسباب معيشته و رخائه الا في ظل حكمهم، و قد التفوا حولهم، فكانت هتافات الثوار و المتظاهرين الدعوة الي «الرضا من آل محمد» و قد قضت الثورة العارمة التي اندلعت في جميع انحاء البلاد علي الحكم الاموي حتي اطاحت به، و ازالت جميع آثاره، ولكن العباسيين قد اختلسوا الحكم من أهله، و حينما استتب لهم الامر عملوا جاهدين علي ابادة العلويين و شيعتهم الذين هم مصدر القوي الواعية في الاسلام.

و كان المخطط الرهيب الذي اتخذته الحكومة العباسية لتصفية الشيعة و سائر القوي المعارضة لهم يحتوي علي ما يلي:

أولا - احداث المذاهب الاسلامية، و فصم عري الوحدة بين المسلمين و اشغالهم بالناحية العقائدية من حياتهم عن النظر في أي شأن من الشؤون السياسية، و قد عجت النوادي في بغداد الكوفة و البصرة و يثرب و سائر انحاء العالم الاسلامي بالمناظرات الكلامية، و الاحتجاجات الفلسفية، و كلها تحوم حول الاطار العقائدي في الاسلام و قد وجهت الحياة العلمية في تلك العصور الي هذه الناحية الخاصة، و لم تتجه الي اي جانب من جوانب



[ صفحه 166]



الحياة السياسية التي يعيشها المسلمون.

ثانيا - عزل أئمة اهل البيت (ع) عن القافلة الاسلامية، و فرض الرقابة عليهم، و منع الاتصال بهم، و عدم أخذ معالم الدين منهم.

و قد شعر العباسيون بحاجة الناس الي التفقه في شؤون دينهم فعهد المنصور الدوانيقي الي الامام مالك - احد رؤساء المذاهب الأربعة - بأن يضع كتابا في الفقه يحمل الناس علي العمل به قهرا فامتنع مالك من ذلك أولا، ثم اجابه أخيرا بعد الضغط فوضع الموطأ [1] .

و قد ساندت الحكومات العباسية بقية أئمة المذاهب و نشرت فقههم، و حملت الناس علي العمل به كما أغدقت عليهم الأموال الطائلة، و كرمتهم تكريما هائلا، فكان الرشيد يأمر عامله علي المدينة بأن لا يقطع أمرا دون أن يأخذ رأي مالك، كما كان يجلس علي الأرض لاستماع حديثه [2] ، و أمر بأن يهتف في ايام الحج أن لا يفتي الا مالك، و قد ازدحم الناس عليه و كثرت عليه الوفود من سائر الأقاليم الاسلامية، لاستماع حديثه و اخذ الاحكام الشرعية منه و كان لا يدنو اليه أحد لما احيط به من التقدير الرسمي، فقد احتف به غلمان من السود غلاظ شداد يأتمرون بأمره و ينكلون بمن شاء أن ينكل به، و قد حدث اسماعيل الفزاري قال: «دخلت علي مالك و سألته أن يحدثني فحدثني اثني عشر حديثا ثم أمسك، فقلت له: زدني أكرمك الله، و كان له سودان قيام علي رأسه، فأشار اليهم فأخرجوني من داره» [3] .

ان العناية البالغة التي أولتها الحكومة العباسية لمالك و غيره من أئمة



[ صفحه 167]



المذاهب تدل بوضوح علي أن الغرض من ذلك هو اضعاف كيان أئمة اهل البيت (ع) و القضاء علي الشيعة الذين هم من أقوي الجبهات المعادية للحكم العباسي، و لابد لنا من وقفة قصيرة للحديث عن الطائفة الشيعية التي حملت لواء الاصلاح و ثارت في وجه الطغاة و المستبدين، و حفل تاريخها بالمآثر و المفاخر، و خدمة المسلمين و فيما يلي ذلك.


پاورقي

[1] شرح الموطأ للزرقاني 1 / 8.

[2] مناقب مالك للزاوي.

[3] شرح الانتقاء: 2 / 42.