بازگشت

عبادته


كان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يقول قرة عيني الصلاة، و قد سار علي دربه الأئمة (ع) فكانوا يستأنسون بلقاء ربهم أشد من استيناس الطفل بمحالب أمه، و لا يعتبرونها هما و وزرا ثقيلا علي ظهورهم كما الكثير في أيامنا.

الامام الكاظم كان يدعو ربه ليفرغه لعبادته، فقد روي أن شخصا من بعض العيون التي كانت عليه في السجن رفع الي عيسي بن جعفر أنه سمعه يقول في دعائه «اللهم انك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم و قد فعلت فلك الحمد» [1] و ليس هذا من نوع الاتكالية، أو عدم الاحساس بالمسؤولية نحو مجتمعه و دينه، ليكون عالة علي غيره.

بل ان الانشغالات الذهنية أو التافهة أحيانا، أو الأمور غير المتوقعة من الابتلاء بشخص أو من شخص أو... تأخذ أوقات الانسان سدي، فلا يستطيع بعدها أن يتفرغ لعبادة ربه، لهدر وقته و طاقته بعدم التوفيق للعبادة.

فالامام (ع) كان يدعو للتوفيق علي العبادة التي تتمشي مع الاحساس بالمسؤولية لشعبه و أمته، لا أنه يدعو للتنسك و التصوف و الرهبنة، علي حساب الآخرين.

و قد كان الامام (ع) «اذا اهتم ترك النافلة» [2] لأن التوجه و الخشوع هو الأساس في الصلاة، و مع انصراف القلب، تكون الصلاة كشجرة بلا ثمرة.

كان الامام الكاظم (ع) أعبد أهل زمانه، و أفقههم و أسخاهم كفا، و أكرمهم نفسا، و روي أنه كان يصلي نوافل الليل، و يصلها بصلاة الصبح، ثم يعقب حتي تطلع الشمس، و يخر لله ساجدا فلا يرفع رأسه من السجود و التحميد حتي يقرب زوال الشمس، و كان يدعو كثيرا فيقول: اللهم اني أسألك الراحة عند الموت، و العفو عند الحساب، و يكرر ذلك، و كان من دعائه عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك، و كان يبكي من خشية الله حتي تخضل لحيته بالدموع.



[ صفحه 56]



و كان هارون ربما صعد سطحا يشرف علي الحبس الذي فيه الامام (ع) فكان يراه ساجدا، فقال يوما للربيع: يا ربيع ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟! فقال: يا أميرالمؤمنين ما ذاك بثوب و انما هو موسي بن جعفر (ع) له كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس الي وقت الزوال.

فقال هارون: أما ان هذا من رهبان بني هاشم، فقال الربيع: فمالك قد ضيقت عليه في الحبس؟ قال: هيهات لابد من ذلك [3] .

ان هارون يعترف في قرارة نفسه بورع و تقوي و شرف الامام (ع) فلذا خافه علي نفسه و ملكه، فوراه عن بصر محبيه و لكنه لم يغب عن بصيرتهم.

و لكن في كلمة الرشيد ان هذا من رهبان بني هاشم، تقليلا من شأن الامام، بأنه زاهد في الدنيا و معتزل عنها و منزو علي نفسه، و كأنه لا علم له بالسياسة، فليس أهلا لتحمل المسؤولية.

فلذا سنحت الفرصة للربيع فبادره بقوله، فما دام كذلك فلما ضيقت عليه في الحبس؟ فليتنسك ما شاء له.

فلم يحر هارون جوابا فقال: هيهات لابد من ذلك.

و عن أحمد بن عبدالله عن أبيه قال: دخلت علي الفضل بن الربيع و هو جالس علي سطح فقال لي: أشرف علي هذا البيت و انظر ما تري؟ فقلت: ثوبا مطروحا. فقال: انظر حسنا فتأملت فقلت: رجل ساجد، فقال لي تعرفه؟ هو موسي بن جعفر، أتفقده الليل و النهار فلم أجده في وقت من الأوقات الا علي هذه الحالة، انه يصلي الفجر فيعقب الي أن تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة، فلا يزال ساجدا حتي تزول الشمس، و قد وكل من يترصد أوقات الصلاة، فاذا أخبره وثب يصلي من غير تجديد وضوء، و هو دأبه، فاذا صلي العتمة أفطر، ثم يجدد الوضوء، ثم يسجد فلا يزال يصلي في جوف الليل حتي يطلع الفجر [4] .



[ صفحه 57]



قد يتذرع بعض الكسبة أو الطلبة أو... بأن الأئمة (ع) كانوا يصلون الليل و النهار بل بعضهم يصلي ألف ركعة في اليوم و الليلة، و هم فارغون من العمل، و نحن لدينا أعمالا أهم من ذلك، و أن الله أراد بنا اليسر لا العسر، بل هم أئمة قد وصلوا الي درجة جعلت روحهم أقوي من مادتهم فلا يشعرون بالتعب أو الجوع أو...

و لكن لنسأل أنفسنا، بأنه لو سنحت لنا فرصة من عطلة أو غيرها هل نغتنمها في العبادة؟ لو كنا في سجن هل نقضي معظم وقتنا في اجلاء دنس الخطايا عن هذه الروح التي دنست في مزابل الذنوب، أم نستأنس بالأصحاب و الطعام و الشراب... ان الأئمة كانوا يعملون بأيديهم في الأرض و غيرها، و كانوا أوصل الناس لأرحامهم، و كانوا يمشون في قضاء حوائج اخوانهم و غير ذلك، اضافة الي عبادتهم تلك.

فالبدن معتاد علي ما عودته، و التطبع طبيعة أخري، و الارادة و ترويض النفس فوق كل هذه الأمور.

ثم ان الأئمة (ع) قد بينوا لنا مقدارا بسيطا من العبادة يسهل علي كل مؤمن اقتطاف ثمره، فقالوا: ان للمؤمن ثلاث ساعات، فساعة يناجي فيها ربه، و ساعة يحاسب فيها نفسه، و ساعة يخلي بين نفسه و بين لذتها فيما يحل و يجمل [5] و قد أعطوا الانسان بقية يومه للكسب و النوم و... بل ان الامام (ع) قسم لنا زماننا و نظم لنا برنامجا يوميا، ما ان يطبق بحذافيره استطاع الانسان من خلاله الاحتواء علي خيرات الدنيا و الآخرة، فقال (ع): «اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، و ساعة لأمر المعاش، و ساعة لمعاشرة الأخوان و الثقات الذين يعرفونكم عيوبكم و يخلصون لكم في الباطن، و ساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم، و بهذه الساعة تقدرون علي الثلاث ساعات» [6] ، و قد اقتفي آثار الامام الكاظم الكثير ممن عاشره.

أنفذ هارون الرشيد الي الامام الكاظم جارية خصيفة لها جمال



[ صفحه 58]



و وضاءة لتخدمه في السجن فقال (ع) للرسول: قل له: بل أنتم بهديتكم تفرحون لا حاجة لي في هذه و لا في أمثالها. قال: فاستطار هارون غضبا و قال: ارجع اليه و قل له: ليس برضاك حبسناك و لا برضاك خدمناك، و اترك الجارية عنده و انصرف. قال: فمضي و رجع، ثم قام هارون عن مجلسه، و أنفذ الخادم اليه ليتفحص عن حالها، فرآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها تقول: سبحانك سبحانك فقال هارون: سحرها والله موسي بن جعفر بسحره، علي بها.

فأتي بها و هي ترتعد شاخصة نحو السماء ببصرها، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني الشأن البديع، اني كنت عنده واقفة و هو قائم يصلي ليله و نهاره، فلما انصرف من صلاته بوجهه و هو يسبح الله و يقدسه، قلت: يا سيدي هل لك حاجة أعطيكها؟ قال: و ما حاجتي اليك؟ قلت: اني أدخلت عليك لحوائجك، قال: فما بال هؤلاء؟... ثم أنه أراها جنة عظيمة فخرت ساجدة الي أن أقامها الخادم الي هارون... [7] .

و من العبادة الابتعاد عن الشبهات، و تطهير النفس مما قد يدنسها، فعن عبدالحميد بن سعيد قال: بعث أبوالحسن (ع) غلاما يشتري له بيضا، فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بها، فلما أتي به أكله، فقال له مولي له: ان فيه من القمار قال: فدعا بطشت فتقيأ فقاءه [8] .


پاورقي

[1] الفصول المهمة ص 240، بحارالأنوار ج 48 ص 107.

[2] بحارالأنوار ج 101 - 48، الارشاد ص 277.

[3] عيون الأخبار ج 1، ص 95.

[4] نفس المصدر ص 107، عيون الأخبار 106 - 1.

[5] نزهة الأفكار ص 654.

[6] البحار ج 75 ص 321.

[7] مناقب ابن شهرآشوب ج 4، ص 297.

[8] الكافي ج 5، ص 123.