بازگشت

العمل علي اعادة الصيغة السياسية الأصيلة الي واقع الحياة الاسلامية


وقفت الظروف السياسية و الأمنية، التي انطلقت في حياة المسلمين الأولي، في وجه الامام الكاظم عليه السلام و منعته من القيام بعملية التحريك الايجابي الفعال لصيغة أهل البيت عليهم السلام، و ايصالها الي مواقع الحكم والقيادة داخل الهيكلية التنظيمية للأمة، لأن ذلك كان يتطلب وجود ظروف موضوعية أكثر راحة و برودا - اذا صح التعبير - علي عكس ما كان عليه الحال، اضافة الي أن استلام زمام الحكم و ادارة البلاد يفترض، من حيث المبدأ، وجود قيادات سياسية واعية و مؤهلة لقيادة الأمة، و هذا ما لم يكن متوافرا آنذاك أيضا، لذلك



[ صفحه 107]



عمل الكاظم عليه السلام - في هذا الاتجاه - علي اعداد و تأهيل هذا النمط الحي الواعي من القياديين القادرين علي استلام مراكز المسؤولية و الحكم، في تقديم أطروحة أهل البيت كصيغة اجتماعية و سياسية ذات بني و خصائص نوعية فريدة، و كبناء اعتقادي متين بديل عن الحكم القائم الظالم و المنحرف، و يمكننا فهم هذا المعطي من خلال الأمور التالية:

1- كان امامنا الكاظم عليه السلام يري أن القيادة العامة، بكل مظاهرها و أشكالها، تمثل حقا مشروعا و طبيعيا للامام المعصوم المنصوص عليه في القرآن و السنة، و هذا ما لاحظناه في حديث أوردناه سابقا حول فدك و رؤية الكاظم الموضوعية لهذه القضية، اذا اعتبر عليه السلام أن فدك تمثل، في وعي أهل البيت جميعا، رمزا و عنوانا للولاية المغتصبة، لا مجرد بقعة جغرافية محدودة.

2- اعتبر الامام الكاظم أن الانحراف الموجود في البنية النفسية الداخلية للطبقة السياسية الحاكمة، في أسلوب ممارستها لقضايا السلطة و الحكم، يعبر عن صيغة ذاتية جاهلية و سلطوية جامدة، لم تكن تمارس دورها الطبيعي في الجانب القيادي الجماهيري الواسع بدلالاته الحضارية و الانسانية، الأمر الذي قاد الصيغة الي طريق الجمود و التغييب و التعتيم نتيجة الاجراءات المضادة التي قام بها الجهاز الحاكم و أعوانه، و هذا ما يمكن أن نستوحيه من خلال الموقف الحاسم الذي اتخذه الكاظم عليه السلام في رفضه الدخول [1] الي الواقع الذاتي و الموضوعي لبنية السلطات الحاكمة، باعتبار أن ذلك يعطيها شرعية الوجود و الامتداد، كما و يقدم لها - من موقع قيادي و زعامة [2] جماهيرية هي زعامة و امامة أهل البيت - صك غفران لممارساتها و أفعالها اللاانسانية بحق الناس و المجتمع.



[ صفحه 108]



3- عمل الامام الكاظم علي تأهيل عناصر القيادة علي المستوي العقائدي و الفقهي و السياسي، كي يكونوا جاهزين لسد الثغرات الحاصلة في الواقع الاسلامي عموما، و بالتالي السعي الدؤوب باتجاه ايجاد كيان سياسي [3] له قاعدته الجماهيرية المؤمنة و المتماسكة، و يكون قادرا علي تجسيد الصيغة الاسلامية الواعية لأهل البيت عليه السلام بمقوماتها و عناصرها الاساسية المعروفة.

طبعا كان الامام الكاظم مدركا و مستوعبا للظروف و الأحداث التي عاصرها في اطار تحركاته و فعالياته، خصوصا علي صعيد اعتقاده باستحالة اقامة و ايجاد «كيان سياسي» للأمة الاسلامية، ينفتح بوعي علي أطروحة و قيادة و مدرسة أهل البيت عليهم السلام في الفكر و الفقه و العقيدة و السياسة، في تلك الظروف الضاغطة أمنيا و سياسيا و حتي علميا و ثقافيا.

ولكن هذا لا يعني عدم ممارسة أساليب مختلفة في العمل الدعوتي الحضاري تحافظ علي الطرح السياسي الاسلامي المتقدم لأهل البيت عليهم السلام و لو علي الصعيد النظري، مع ايمان كامل بوجود امكانيات و ظروف أفضل في مستقبل الدعوة قد تنفتح أمامها، بحيث تمكن القواعد الشعبية و كتلتها المميزة - التي كان الامام عليه السلام، كما ذكرنا، يعمل علي تثقيفها و توجيهها و توعيتها برسالة و قيم الاسلام المحمدي الأصيل - من تسلم زمام الحكم و ممارسة العمل السياسي، في المستقبل، بأقصي أبعاد الوعي و روح المبادرة الفعالة العالية في مستواها الفكري و العقيدي.

و في هذا المجال، أود أن أؤكد علي نقطة هامة يمكن استلهامها من سيرة و حياة الكاظم عليه السلام في الجانب السياسي، و هي: أننا نحن أبناء الجيل الحالي، الذين ننتمي الي الدائرة الاسلامية الكبري نحتاج، في ظروف



[ صفحه 109]



و تعقيدات عصرنا الحالي، الي عمل فكري ابداعي دؤوب و صادق من أجل اعداد و صياغة مشروع حضاري متكامل، اسلامي الطرح و الهوية و الانتماء، انساني الوجود و الهدف و الامتداد، يكون قادرا علي انتاج و صياغة برنامج عمل اسلامي لعموم المجتمع و الأمة، و ذلك باظهار تشريعات الاسلام الانسانية و تقديم أحكامه الحضارية، و تبيان طرحه كبديل حقيقي فاعل لفلسفات الوجود الوضعية القائمة، يصون الأمة و يمدها بوقود النهوض و الحركة علي المستوي السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي لأننا نستطيع، من خلال هذا العمل، أن ننجز و نحقق واقعية الطرح الاسلامي المعاصر [4] ، و شموليته و عقلانيته و انسانيته علي صعيد التطبيق العملي الحي و الواعي لمضامين و معايير الرسالة بمستوياتها العقائدية و الروحية و الاجتماعية و السياسية و الحقوقية، و لا نريد لهذا الفعل التجديدي أن يكون ردة فعل سلبية علي تحديات الواقع المعاش لمجرد الرغبة النفسية الجامحة في جدة الجديد، بل أن تكون حركة التجديد مدروسة و متوازنة و من صلب النواة الفكرية و العقيدية للرسالة الاسلامية، أي أن يكون هذا الفعل دعما و استجابة للاسلام نفسه، قبل أن يكون استجابة محدودة لمتغيرات الحياة المستجدة.


پاورقي

[1] قلنا سابقا: ان ذلك قد حدث مع علي بن يقطين فقط من خلال سماح الامام له بالدخول الي الجهاز الاداري لنظام هارون، و هو يلحظ بذلك مصلحة عليا للاسلام و المسلمين.

[2] قد يتحفظ بعضهم علي استخدامنا لهذه المفردة، لكننا نقول: انها زعامة فكرية و عقائدية و شرعية تتأصل بالاسلام و تنمو بنموه و امتداده في ساحة الحياة، و هي، من خلال ذلك، ليست زعامة تقليدية بالمعني السائد و المتداول هنا و هناك.

[3] ليس في الظروف المعقدة التي عاشها الامام الكاظم و انما في مستقبل الدعوة علي مستوي التكامل النوعي بين الأدوار و المواقف و الرؤي و الأهداف التي سعي أهل البيت الي تجسيدها و تنفيذها.

[4] طبعا هناك مشاكل و عقبات و تحديات و متغيرات ذاتية و موضوعية مختلفة تقف في وجه هذا الطرح المشروع علي الصعيد الذاتي و الموضوعي، درسنا بعضها في مباحث سابقة و سنقوم بدراسة و تحليل بعضها الآخر، لاحقا، في الباب الثاني من هذا الكتاب ان شاء الله، و ذلك علي ضوء و عينا و استلهامنا لتجربة الكاظم عليه السلام في حقل الفكر و التاريخ و العقيدة.