بازگشت

العلم و المعرفة


يقول الامام الكاظم عليه السلام: «يا هشام، تعلم من العلم ما جهلت، و علم الجاهل مما علمت، عظم العالم لعلمه و دع منازعته، و صغر الجاهل لجهله و لا



[ صفحه 151]



تطرده ولكن قربه و علمه» [1] ، و يقول عليه السلام: «وجدت علم الناس قد اجتمع في أربع: أن تعرف ربك، و أن تعرف ما صنع بك في آياته (سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم)، [فصلت: 53]، و أن تعرف دينك، و أن تعرف ما يخرجك من دينك» [2] لا شك بأن العلم من المقومات الحضارية الرفيعة المستوي، و هو لا يقل في أهميته وجوهريته، بالنسبة الي الحضارة الانسانية، عن القيم الدينية و الأخلاقية. خاصة و أننا نعيش في عصر لا يملك فيه الانسان - عندما يريد أن يفتح آفاقا واسعة الي فكره و التزاماته العملية - الا أن يكون عالما بلغة عصره في السياسة و الثقافة و الاجتماع و الاقتصاد و الأمن و ما الي ذلك، بمعني أنه لا بد للانسان أن يسعي لنيل درجات العلم و المعرفة في شتي مجالات الحياة، و أن يطلع علي حركة الفكر في عصره و علي اتجاهات الواقع في كل شؤونه و شجونه السياسية و العملية لأن فهم لغة العصر هو شرط أساسي للدخول اليه و محاورة أهله، فعندما يكون علمك و فكرك علم و فكر الناس الذين كانوا يعيشون قبل مئات السنين فأنت من جيل مضي و رحل لا تستطيع أن تحاوره الآن، لأنه مات و انقضي، أما الجيل الذي يعيش معك و يعاصر قضايا الحياة في تنوعاتها و امتدادتها المختلفة، و أنت لم تعش فكره و لا تطلعاته و لا اتجاهات العلم فيه، فكيف يمكن أن تتفاهم معه و تدعوه الي فكرك و قناعاتك؟! لذلك عليك أن تتعلم و تعرف - و أنت ابن العصر الحاضر - كل القوي و الاتجاهات التي تحاول أن تتحدي دينك فكرا و شريعة و منهجا و حركة.

علي ضوء ذلك يؤكد الدين الاسلامي علي المعرفة و العلم كقيمة أساسية في الحياة [3] تدفع الانسان اليها و تحمل الانسان المسؤولية من خلالها، و تجعل الانسان يعيش في نفسه الشعور بأن الجهل لا يمثل عذرا للجاهل عندما يدفعه الجهل الي السير في المواقع التي تنحرف به عن خط المسؤولية الا اذا كان



[ صفحه 152]



الجهل مشكلة واقعية تنطلق من خلال العناصر التي تطوقه من كل جانب فتمنعه من أن يجد أية نافذة تطل به علي العلم [4] ، و بذلك يعتبر الاسلام العلم مسؤولية الانسان الجاهل الذي عليه أن يتعلم في كل ما أوكل اليه من المسؤوليات في المستوي الخاص و في المستوي العام، و هذا ما يشير اليه حديث الامام الكاظم الذي أوردناه في بداية حديثنا عن مسألة العلم، في قوله عليه السلام: «تعلم من العلم ما جهلت و علم الجاهل مما علمت».

و هكذا نجد - كما يؤكد الكاظم عليه السلام - أن العلم مسؤولية العالم في أن يعلم الآخرين، تماما كما هي مسؤولية الجاهل في أن يتعلم لأن الجميع مسؤول عن التخطيط و العمل الدؤوب لبناء واقع الحياة الحضارية وفق مفاهيم و تصورات الاسلام، لذلك يجب أن ننطلق من موقع العلم في نظرتنا الي أي مجال من مجالات الحياة و الوجود في حركة مسؤوليتنا تجاه هذه الحياة، و من أجل أن نبني حضارتنا علي أساس العلم من حيث ما يمثله العلم من مسؤولية شاملة تنطلق بالانسان من معرفته لنفسه و معرفته لما حوله و معرفته لربه و معرفته لمسؤوليته عن كل مواقع الحياة، مما يجعل العلم يتحرك في كل جانب من جوانب الحياة التي يطل عليها الاسلام بحيث لا يرضي (الاسلام) لأي جانب من جوانب الحياة - ذاتيا علي صعيد الفرد و موضوعيا علي صعيد المجتمع و الأمة - أن يبقي غامضا في نطاق الجهل فمسؤولية الانسان هي أن يفتح كل النوافذ علي حضارة المعرفة و أن يستنفر كل طاقاته و قدراته من أجل المعرفة و العلم لتكون المعادلة: ان معني أن تكون انسانا، أن تكون عالما، و معني أن تكون مؤمنا أن تكون متحركا في آفاق العلم، و معني أن تكون مسؤولا أن تكون الانسان الذي يفتش عن المعرفة في كل موقع من مواقع المسؤولية في اطار بحثه للمنهج العلمي الرصين الذي يحكم حركته، و يخطط لكيفية الاستفادة من مساحات العمل و الابداع فيه، و الاسلام يؤكد - في مقابل المنهج العلمي في حركة التفكير



[ صفحه 153]



و العلم [5] - علي ضرورة اعتماد المنهج العقلي أيضا كأساس أولي للمعرفة، الذي يمكن أن يفتح أمام العلم و التجربة الكثير من الآفاق التي تطلق التجربة المحدودة في نطاق الحس الي نظرية شاملة عامة تتجاوز مواقعها لتحرك الفكرة من الخاص الي العام. لقد فتح المنهج العلمي و العقلي في الاسلام طرقا و سبلا لا حصر لها أمام الحضارة الاسلامية فاستطاعت، من خلال ذلك، أن تشارك في صنع العلم و ابداع النظريات العلمية و تطبيقاتها التقانية منذ بداية نشوئها، حيث تعهدت الدولة الاسلامية و أجهزتها الرسمية آنذاك - و بتشجيع من المجتمع ودعم من هيئاته كافة - العلماء بالرعاية و أنشأت لهم دور العلم الكبري.

الي ذلك، فاننا نتساءل - في هذا المجال -: اذا كان هذا هو حال العلم و العلماء في عصر الحضارة الاسلامية الكبري، فما هي الأسباب التي أدت الي توقف هذا الابداع العلمي؟ من الطبيعي أن نقول - في اجابتنا - بأن هناك أسبابا سياسية و اقتصادية و اجتماعية [6] و كذلك



[ صفحه 154]



فكرية [7] ، لكننا نجد أن السبب الأساسي - فيما يبدو و يظهر من خلال متابعتنا و استقرائنا لحركة الواقع العلمي التاريخي عند العرب و المسلمين - لكل هذا التخلف العلمي الذي نعيشه حاليا، قد ارتبط منذ ذلك العهد بابتعادنا عن الاجتهاد في فهم حركة الدين الذي يشكل أحد القوي الدافعة و المحركة للابداع في عالمنا الاسلامي، حيث أدي اغلاق باب الاجتهاد الي ضعف و انحطاط علمي و فكري كبيرين ما جعل العلماء، في بقية التخصصات، تتخاذل عن البحث و العمل، اذ أن ازدهار علوم العقل كل لا يتجزأ، فالتخلف عن ركب التقدم العلمي في أي علم من العلوم دينية كانت أو رياضية أو طبيعية أو اجتماعية أو انسانية يشير الي اختلال منظومة التقدم الحضاري ككل، و ليس أدل علي صحة ما نقول الا النظر في تاريخ الحضارات قديمها و حديثها، فسنجد أن مظاهر التقدم تتكامل كلها حينما تتوافر لها البيئة و المناخ الملائمان [8] لعل من أهمها - كما ذكرنا - ضرورة توفير المناخ السياسي الملائم للابداع و الحداثة العلمية و الاقتصادية، باطلاق حريات الأفراد و توفير امكانيات المشاركة الفعلية أمامهم، سواء كانوا من العلماء النظريين أو من الفنيين، أو من العمال، أو من



[ صفحه 155]



المتلقين و عامة الشعب، فملاحم التقدم في تاريخ البشرية ترتبط حلقاتها و تتسع لجهود الجميع، حكاما و محكومين، في مناخ من المساواة و الحرية و الأمان الجماعي و الحس الوطني الواعي [9] و لعلنا نجد أن تخلفنا و اعاقة تقدمنا و تطورنا في ابداع و صنع حداثتنا، يعود - بالدرجة الأولي - الي و هن استراتيجيات التحديث، و عدم فاعليتها، و عدم اتساقها، لأن الأصل في التطور و الحداثة بناء استراتيجية حقيقية لتعظيم الاستثمارات العلمية و العملية الجدية في كل ميدان: تكوين رأس المال الاقتصادي و العلمي و التقني و الفكري و الروحي، و تحرير الشعوب و الجماعات و الأمة من الخوف و الاستلاب و الجمود و الضعة و الأمعية و الاقتداء و الاستزلام و المحسوبية و الشعور بالصغار و الدونية. و من أجل ذلك، و في سبيله، توسيع دائرة فعل هذا الاستثمار و ضمان استمراره و نجاعته، و كل ذلك يتناقض مع ما شهدناه من ممارسات و سياسات مطبقة من قبل النخب الضعيفة التي سيطرت علي مقاليد الأمور و حولت الاستثمار (العلمي و الاقتصادي) الي مراكمة للثروة الشخصية، و بناء الجماعة الحية الي تجديد لعلاقات العبودية و السخرة، و تكوين رأس المال العلمي و التقني الي دعايات فظة لعقائد و شعارات هزيلة جوهرها تقديس الذات و عبادة الحاكم، و تحقيق الاندماج الاقليمي العربي الضروري الي استهلاك ممجوج لعقيدة قومية مخشبة توظف لترسيخ القطيعة بين البلدان بدل تشجيعها علي الانفتاح علي بعضها [10] .


پاورقي

[1] تحف العقول (ص: 290).

[2] م. س (ص: 290).

[3] نظر الاسلام الي العلم علي أنه نعمة كبري: (علم الانسان ما لم يعلم) [العلق: 5] (و قل رب زدني علما) [طه: 14] بحيث يجب أن يعمل الانسان علي الأخذ بأسباب العلم و المعرفة و بكافة صورهما.

[4] يمثل العلم - في نظر الاسلام - القيمة التي تقسم الناس الي قسمين: في الجانب الايجابي و في الجانب السلبي، فالقيمة الايجابية هي قيمة العلم، و القيمة السلبية هي قيمة الجهل، (قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون).

[5] يتحدث القرآن الكريم عن الذين يملكون أعينا لا يبصرون بها و يملكون آذانا لا يسمعون بها و يملكون قلوبا لا يفقهون بها، و يبدو أن تركيز القرآن علي السمع و البصر، باعتبارهما عنصرين من عناصر حركة التجربة الحسية، يعني أنه يقدمهما كنموذج للعنصر التفكيري الحسي، الي جانب تركيزه علي العقل كأداة فكرية عملية، مما يفيد بأن المنهج الاسلامي السليم في الوصول الي المعرفة هو هذا المزيج بين الحس و العقل، بين تجربة تنفتح علي عقل و عقل يتغذي من خلال تجربة.

[6] كان و لا يزال - من أبرزها الاستعمار و بنوعيه القديم و الحديث الذي عمل علي ترسيخ التخلف العلمي عندنا، تماما كما عمل أذنابه و أعوانه (و عملاؤه) في بلادنا في استبدادهم و تسلطهم علي الانسان في مجتمعاتنا، و منعه من البحث و التطوير و غياب التقدير له اجتماعيا و اقتصاديا - كعامل هام من عوامل احباطه و عدم قدرته علي الابداع - في ظل سياسة رسمية ترفع القمع و الارهاب شعارا لها، و لا تزال تمارس ذلك في كل واقعنا الاجتماعي و الفكري و السياسي، مع العلم أن البحث العلمي يتطلب مناخا سياسيا هادئا أساسه الاحساس بالحرية و نيل الحقوق و الشعور بالأمن و الاستقرار النفسي و السلوكي. لقد أنتج هذا الجو (جو القمع و الاستبداد) سوء استخدام للأموال العربية، و أدي الي هدر مبالغ طائلة منها.

كنا في غني عن هدرها لو توافرت عندنا شروط و مناخات الابداع (و انتاج مبدعين). فقد قدرت دراسة حديثة حجم الخدمات الاستشارية التي قدمتها المكاتب و الشركات الأجنبية للدول العربية بنحو 23 مليار دولار في عام واحد هو عام 1979 [راجع تقرير لجنة استراتيجية تطوير العلوم و التقانة في الوطن العربي (ص: 130 - 129)].

[7] اضطراب الشخصية العربية و الاسلامية و انفصامها بين واقعها المتخلف و سياسات حكوماتها و أنظمتها التي لا تقوم علي أساس وضع توجهات و خطط عملية تنطلق من عمق تراثها و عقيدتها التوحيدية (كشرط للمشاركة و الابداع و الانتاج) و بين الواقع العالمي التقني المعاصر الذي خلخل و أربك بنيانها النفسي و شل قدرتها الحركية عن العطاء و العمل و حول مجتمعاتنا الي مجتمعات استهلاكية مستوردة تعاني تناقضا بين الاعجاب بهذه المنتوجات و الأجهزة التي يقتنيها الفرد من دون معرفة كيفية انتاجها و تشغيلها و صيانتها، و بين الرغبة الملحة في ضرورة ادراك كوامن هذه الثورة التقانية المعاصرة و اللحاق بها، علي الرغم من العجز الذي يواجهه المرء حينما يحاول ذلك في ظل ظروف و امكانيات محدودة (بل و تكاد تكون معدومة)، و عدم سماح الدول المنتجة للآخرين بامتلاك أسرار الانتاج المتفوق لهذه المنتوجات المتطورة [راجع: العقلية العربية بين انتاج العلم و استيراد الثقافة، مصطفي النشار، مجلة المستقبل العربي (عدد: 200، ص 116)، عام: 1995].

[8] مجلة المستقبل العربي (ص: 136) م. س.

[9] مجلة المستقبل العربي (ص: 136).

[10] د. برهان غليون: حقيقة الحداثة و اعاقتها، و الغدر بوعودها، (صحيفة الحياة، ص: 17) تاريخ 29 / 8 / 1997.