بازگشت

الوشاية به


لقد كان الحقد من مقومات ذات الرشيد، و من أبرز صفاته النفسية، فكان يحمل حقدا لكل شخصية مرموقة لها المكانة العليا في عصره، فلم يرق له بأي حال أن يسمع الناس و هم يتحدثون عن شخص يتمتع بمكانة عليا في المجتمع، و ذلك لئلا يزهد الناس فيه، و لكي يحتكر التعالي و العظمة و الأولوية لنفسه و لذاته، كما هو دأب الطغاة في كل عصر، فقد حسد الرشيد البرامكة لما ذاع صيتهم، و تحدثت الناس عن مكارمهم، فلم يشف شأفة نفسه و حرارة حقده الا باستئصالهم و ازالة وجودهم من الأرض.

و كان من الطبيعي أن يحقد الرشيد علي الامام موسي عليه السلام: لأنه ألمع شخصية في عصره علما و تقوي و زهدا و خلقا، فقد تناقل الناس فضائله و تحدثت جميع الأوساط عن علمه و مواهبه، و ذهب جمهور غفير من المسلمين الي امامته، و أنه أحق بمنصب الخلافة منه. حتي ان هارون نفسه كان يقر ذلك و يقول لولده المأمون: هذا امام الناس و حجة الله علي خلقه و خليفته علي عباده، والله يا بني انه أحق بمقام رسول الله صلي الله عليه و آله مني و من الخلق جميعا، و والله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فان الملك عقيم.



[ صفحه 386]



و قال مرة له: يا بني، هذا وارث علم النبيين، هذا موسي بن جعفر، ان أردت العلم الصحيح فعند هذا [1] .

و قد اضيف لشخصيته الحاقدة شهوته للملك و حبه للسلطان، الذي يضحي في سبيله بجميع القيم و المقدسات، فكيف تطيب نفسه و قد رأي الناس قد أجمعوا علي حب الامام و تقديره!

و يضاف لذلك أيضا أنه كان مبغضا للعلويين، و ورث عداءهم من آبائه و سلفه اللذين نكلوا بهم، و ساموهم وابلا من العذاب، و ساقوهم الي السجون و القبور، فكان أبغض شي ء علي الرشيد أن يري عميد العلويين و سيدهم الامام موسي الكاظم عليه السلام في دعة و اطمئنان دون أن ينكل به، و يودعه السجن حتي الموت.

كما عمد فريق من باعة الضمير و الدين الي السعي بالامام عليه السلام و الوشاية به عند هارون، ليتزلفوا اليه، و ينالوا من حطام دنياه النزر اليسير، بدعوي أن الامام تجبي له الأموال الطائلة من شتي ديار الاسلام، و أنه يدعو لنفسه بالخلافة و يكتب الي سائر الأمصار الاسلامية يدعوهم الي نفسه، و ما الي ذلك من البهت و الكذب، و فيما يلي نورد طرفا من الأخبار في ذلك:

1 - في عيون أخبار الرضا عليه السلام: عن الطالقاني، عن محمد بن يحيي الصولي، عن أبي العباس أحمد بن عبدالله، عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، عن صالح ابن علي بن عطية، قال: كان السبب في وقوع موسي بن جعفر عليه السلام الي بغداد: أن



[ صفحه 387]



هارون الرشيد أراد أن يعقد الأمر لابنه محمد بن زبيدة، و كان له من البنين أربعة عشر ابنا، فاختار منهم ثلاثة: محمد بن زبيدة، و جعله ولي عهده، و عبدالله المأمون، و جعل الأمر له بعد ابن زبيدة، و القاسم المؤتمن، و جعل الأمر له بعد المأمون.

فأراد أن يحكم الأمر في ذلك، و يشهره شهرة يقف عليها الخاص و العام، فحج في سنة تسع و سبعين و مائة، و كتب الي جميع الآفاق يأمر الفقهاء و العلماء و القراء و الامراء أن يحضروا مكة أيام الموسم، فأخذ هو طريق المدينة.

قال علي بن محمد النوفلي: حدثني أبي أنه كان سبب سعاية يحيي بن خالد بموسي بن جعفر عليه السلام وضع الرشيد ابنه محمد بن زبيدة في حجر جعفر بن محمد ابن الأشعث، فساء ذلك يحيي، و قال: اذا مات الرشيد، و أفضي الأمر الي محمد ابن زبيدة انقضت دولتي و دولة ولدي، و تحول الأمر الي جعفر بن محمد بن الأشعث و ولده [2] .

و كان قد عرف يحيي مذهب جعفر الأشعث في التشيع، فأظهر له أنه علي مذهبه، فسر به جعفر بن الأشعث و أفضي اليه بجميع اموره، و ذكر له ما هو عليه في موسي بن جعفر عليه السلام.

فلما وقف يحيي علي مذهبه سعي به الي الرشيد، و كان الرشيد يرعي له



[ صفحه 388]



موضعه و موضع أبيه محمد بن الأشعث من نصرة الخلافة، فكان يقدم في أمره [جعفر بن الأشعث] و يؤخر، و يحيي لا يألو أن يخطب عليه، الي أن دخل يوما الي الرشيد فأظهر له اكراما، و جري بينهما كلام مت [3] به جعفر بحرمته و حرمة أبيه، فأمر له الرشيد في ذلك اليوم بعشرين ألف دينار، فأمسك يحيي عن أن يقول فيه شيئا حتي أمسي.

ثم قال يحيي للرشيد: يا أميرالمؤمنين، قد كنت اخبرك عن جعفر و مذهبه فتكذب عنه، و هاهنا أمر فيه الفيصل. قال: و ما هو؟ قال: انه لا يصل اليه مال من جهة من الجهات الا أخرج خمسه، فوجه به الي موسي بن جعفر، و لست أشك أنه قد فعل ذلك في العشرين ألف دينار التي أمرت بها له. فقال هارون: ان في هذا لفيصلا.

فأرسل الي جعفر ليلا، و قد كان عرف سعاية يحيي به، فتباينا و أظهر كل واحد منهما لصاحبه العداوة، فلما طرق جعفرا رسول الرشيد بالليل خشي أن يكون قد سمع فيه قول يحيي، و أنه انما دعاه ليقتله، فأفاض عليه ماء و دعا بمسك و كافور فتحنط بهما، و لبس بردة فوق ثيابه، و أقبل الي الرشيد، فلما وقعت عليه عينه و شم رائحة الكافور، و رأي البردة عليه، قال: يا جعفر ما هذا؟!

فقال: يا أميرالمؤمنين، قد علمت أنه قد سعي بي عندك، فلما جاءني رسولك في هذه الساعة لم آمن أن يكون قد قدح في قلبك ما يقال علي، فأرسلت الي لتقتلني.

فقال: كلا و لكن قد خبرت أنك تبعث الي موسي بن جعفر من كل ما يصير



[ صفحه 389]



اليك بخمسه، و أنك قد فعلت ذلك في العشرين ألف دينار، فأحببت أن أعلم ذلك، فقال جعفر بن الأشعث: الله أكبر يا أميرالمؤمنين، تأمر بعض خدمك يذهب فيأتيك بها بخواتيمها.

فقال الرشيد لخادم له: خذ خاتم جعفر و انطلق به حتي تأتيني بهذا المال. و سمي له جعفر جاريته التي عندها المال، فدفعت اليه البدر بخواتيمها، فأتي به الرشيد فقال له جعفر: هذا أول ما تعرف به كذب من سعي بي اليك. قال: صدقت يا جعفر انصرف آمنا، فاني لا أقبل فيك قول أحد. قال: و جعل يحيي يحتال في اسقاط جعفر بن الأشعث.

قال النوفلي: فحدثني علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي، عن بعض مشايخه - و ذلك في حجة الرشيد قبل هذه الحجة - قال: لقيني علي بن اسماعيل ابن جعفر بن محمد، فقال لي: ما لك قد أخملت نفسك؟ ما لك لا تدبر أمر الوزير؟ فقد أرسل الي فعادلته [4] ، و طلبت الحوائج اليه.

و كان سبب ذلك أن يحيي بن خالد قال ليحيي بن أبي مريم: ألا تدلني علي رجل من آل أبي طالب له رغبة في الدنيا، فاوسع له منها؟ قال: بلي، أدلك علي رجل بهذه الصفة، و هو علي بن اسماعيل بن جعفر بن محمد.

فأرسل اليه يحيي فقال: أخبرني عن عمك، و عن شيعته، و المال الذي يحمل اليه. فقال له: عندي الخبر، فسعي بعمه.

و كان في سعايته أنه قال: ان من كثرة المال عنده أنه اشتري ضيعة تسمي اليسيرة، بثلاثين ألف دينار، فلما أحضر المال، قال البائع: لا اريد هذا النقد،



[ صفحه 390]



اريد نقد كذا و كذا، فأمر بها فصبت في بيت ماله، و أخرج منه ثلاثين ألف دينار من ذلك النقد و وزنه في ثمن الضيعة.

قال النوفلي: قال أبي: و كان موسي بن جعفر عليه السلام يأمر لعلي بن اسماعيل بالمال و يثق به، حتي ربما خرج الكتاب منه الي بعض شيعته بخط علي بن اسماعيل، ثم استوحش منه.

فلما أراد الرشيد الرحلة الي العراق بلغ موسي بن جعفر عليه السلام أن عليا ابن أخيه يريد الخروج مع السلطان الي العراق.

فأرسل اليه: ما لك و الخروج مع السلطان؟ قال لأن علي دينا. فقال: دينك علي. قال: و تدبير عيالي، قال: أنا أكفيهم. فأبي الا الخروج.

فأرسل اليه مع أخيه محمد بن جعفر بثلاثمائة دينار و أربعة آلاف درهم. فقال: اجعل هذا في جهازك، و لا تؤتم ولدي [5] .

فلما قام من بين يديه قال أبوالحسن موسي عليه السلام لمن حضره: والله ليسعين في دمي و ليؤتمن أولادي. فقالوا له: جعلنا الله فداك، أنت تعلم هذا من حاله و تعطيه و تصله! قال: نعم، حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله صلي الله عليه و آله: «أن الرحم اذا قطعت فوصلت فقطعت قطعها الله»، و اني أردت أن أصله بعد قطعه لي حتي اذا قطعني قطعه الله [6] .

قالوا: فخرج علي بن اسماعيل حتي أتي يحيي بن خالد، فتعرف منه خبر موسي بن جعفر، فرفعه الي الرشيد، و زاد فيه، ثم أوصله يحيي الي الرشيد، فسأله



[ صفحه 391]



عن عمه موسي بن جعفر، فسعي به اليه، و قال له: ان الأموال تحمل اليه من المشرق و المغرب، و انه اشتري ضيعة بثلاثين ألف دينار فسماها اليسيرة، فقال له صاحبها و قد أحضر المال: لا آخذ هذا النقد، و لا آخذ الا نقد كذا و كذا، فأمر بذلك المال فرد، و أعطاه ثلاثين ألف دينار من النقد الذي سأله بعينه، فسمع ذلك منه الرشيد [7] .

و نقل أنه ذكر في مجلس الرشيد أنه يجتمع علي باب عمه من الناس أكثر مما يجتمع علي باب الرشيد، فأمر له بمائتي ألف درهم و ولاه علي بعض النواحي، و مضت رسله لقبض المال، فدخل الي الخلاء فزحر زحرة خرجت منها حشوته [8] كلها فسقط لوجهه، و اجتهدوا في ردها فلم يقدروا، فوقع لما به، فجاءه المال، و هو ينزع، فقال: ما أصنع به و أنا في الموت؟ و مات و لم ينتفع بالمال [9] .

2 - و في بعض الروايات أن الذي وشي بالكاظم عليه السلام هو أخوه محمد بن جعفر عليه السلام [10] ، ففي «عيون أخبار الرضا عليه السلام»: عن المكتب، عن علي بن ابراهيم،



[ صفحه 392]



عن اليقطيني، عن موسي بن القاسم البجلي، عن علي بن جعفر، قال: جاءني محمد ابن اسماعيل بن جعفر بن محمد، و ذكر لي أن محمد بن جعفر دخل علي هارون الرشيد فسلم عليه بالخلافة، ثم قال له: ما ظننت أن في الأرض خليفتين حتي رأيت أخي موسي بن جعفر يسلم عليه بالخلافة [11] .

و قيل: كان ممن سعي بموسي بن جعفر عليه السلام يعقوب بن داود، و كان يري رأي الزيدية.

3 - و في رواية أن الذي وشي بالامام عليه السلام هو محمد بن اسماعيل بن جعفر، روي الكشي بسنده عن علي بن جعفر بن محمد عليه السلام، قال: جاءني محمد بن اسماعيل ابن جعفر يسألني أن أسأل أباالحسن موسي عليه السلام أن يأذن له في الخروج الي العراق، و أن يرضي عنه و يوصيه بوصية.

قال: فتنحيت حتي دخل المتوضأ، و خرج و هو وقت كان يتهيأ لي أن أخلو به و اكلمه، قال: فلما خرج قلت له: ان ابن أخيك محمد بن اسماعيل يسألك أن تأذن له في الخروج الي العراق، و أن توصيه، فأذن له عليه السلام.

فلما رجع الي مجلسه قام محمد بن اسماعيل و قال: يا عم، احب أن توصيني. فقال: اوصيك أن تتقي الله في دمي، فقال: لعن الله من يسعي في دمك. ثم قال: يا عم أوصني. فقال: اوصيك أن تتقي الله في دمي. قال ثم ناوله أبوالحسن عليه السلام صرة فيها مائة و خمسون دينارا فقبضها محمد، ثم ناوله اخري فيها مائة و خمسون دينارا فقبضها، ثم أعطاه صرة اخري فيها مائة و خمسون دينارا فقبضها، ثم أمر له



[ صفحه 393]



بألف و خمسمائة درهم كانت عنده.

فقلت له في ذلك و استكثرته، فقال: هذا ليكون أوكد لحجتي اذا قطعني و وصلته.

قال: فخرج الي العراق، فلما ورد حضرة هارون أتي باب هارون بثياب طريقه قبل أن ينزل، و استأذن علي هارون، و قال للحاجب: قل لأميرالمؤمنين أن محمد بن اسماعيل بن جعفر بن محمد بالباب، فقال الحاجب: انزل أولا، و غير ثياب طريقك، و عد لادخلك اليه بغير اذن، فقد نام أميرالمؤمنين في هذا الوقت.

فقال: أعلم أميرالمؤمنين أني حضرت و لم تأذن لي، فدخل الحاجب و أعلم هارون قول محمد بن اسماعيل، فأمر بدخوله فدخل و قال: يا أميرالمؤمنين، خليفتان في الأرض، موسي بن جعفر بالمدينة يجبي له الخراج، و أنت بالعراق يجبي لك الخراج.

فقال: والله. فقال: والله. قال: فأمر له بمائة ألف درهم، فلما قبضها و حملت الي منزله أخذته الذبحة في جوف ليلته، فمات و حول من الغد المال الذي حمل اليه الي الرشيد [12] .

قال ابن شهر آشوب في المناقب: كان محمد بن اسماعيل بن الصادق عليه السلام عند عمه موسي الكاظم عليه السلام يكتب له الكتب الي شيعته في الآفاق، فلما ورد الرشيد الحجاز سعي بعمه الي الرشيد، فقال: أما علمت أن في الأرض خليفتين يجبي اليهما الخراج؟ فقال الرشيد: ويلك أنا و من؟ قال: موسي بن جعفر، و أظهر أسراره، فقبض عليه، و حظي محمد عند الرشيد، و دعا عليه موسي الكاظم بدعاء



[ صفحه 394]



استجابه الله فيه و في أولاده [13] .

و يمكن أن يكون كل منهم قد سعي به عليه السلام.


پاورقي

[1] أمالي الصدوق: 1 / 307. عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 12 / 93. البحار 48: 6 / 134.

[2] و لم يكن يحيي يعلم أن الله بالمرصاد لكل باغ، و أن من حفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيها، و أن من سل سيف البغي قتل به، فزالت دولته و دولة ولده في حياة الرشيد قبل انتقال الأمر الي الأمين، و قتله الرشيد و ولده شر قتلة، و اقتص للامام الكاظم عليه السلام منهم في دار الدنيا، و لعذاب الآخرة أشد و أخزي.

[3] المت: التوسل و التوصل بحرمة أو قرابة أو غير ذلك.

[4] أي ركبت معه في المحمل.

[5] عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 1 / 69. البحار 48: 1 / 207.

[6] الارشاد 2: 238.

[7] مقاتل الطالبيين: 333. روضة الواعظين 1: 218. الارشاد 2: 238.

[8] الزحير: استطلاق البطن، حشوة البطن: أمعاؤه.

[9] الارشاد 2: 238 و 239. التتمة في تواريخ الأئمة: 113.

[10] لعل هذا الحديث مجرد ادعاء من محمد بن اسماعيل بن جعفر علي عمه محمد بن جعفر ليس الا، لأن محمد بن جعفر كان معروفا بجلالته و تقواه أولا، و لأنه كان مخالفا للعباسيين و قد خرج أيام المأمون و تسمي بأميرالمؤمنين، و قد ذكرنا ذلك في ترجمته عند ذكر اخوته عليه السلام في الفصل الأول من هذا الكتاب.

[11] عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 2 / 72. البحار 48: 8 / 210.

[12] رجال الكشي: 478 / 263.

[13] المناقب 4: 326.